فن صناعة الوعي الغبي

إكرام لمعي
إكرام لمعي

آخر تحديث: الجمعة 29 نوفمبر 2019 - 10:10 م بتوقيت القاهرة

منذ أن بدأت ثورات الربيع العربى عام 2011 حتى اليوم، لم تهدأ شوارع العراق واليمن ولبنان والسودان وليبيا... إلخ. وفى تتبعنا لمن يقومون بتحليل هذه الثورات من خلال المقالات المكتوبة والأبحاث والتعليقات والبرامج التلفزيونية، نستطيع أن نرصد ومعنا معظم المحللين الأمناء، أن هناك تراجعًا واضحًا لشكل معين من الرأى العام السياسى، حيث افتقد للعمق التحليلى الأكاديمى المحترف، فضلًا عن افتقاده للبعد التاريخى والفلسفى والمجتمعى. وفى محاولة لتفسير هذه الظاهرة نستطيع أن ندرك أن ذلك قد حدث بسبب تدخل استخبارات هذه الدول فى هذه التحليلات. ولكى نكون واقعيين وأمناء فإن هذا لم يحدث فقط فى منطقتنا بل فى دول أوروبا أيضًا وذلك كرد فعل للهجمات الإرهابية والتى كانت من نتيجتها تحويل مراكز الأبحاث بالجامعات إلى دكاكين ملحقة بأجهزة الاستخبارات فى شكل مباشر أو غير مباشر؛ إذ يكفيك ــ عزيزى القارئ ــ أن تتبع عدد الأدبيات الصادرة حول قضايا لها علاقة بالثورات من ناحية والإرهاب من الناحية الأخرى، مع عدد المشاريع التى تمولها الدول فى هذا المجال، لتعرف قوة وعمق وزخم التحول الدراماتيكى الذى يعصف بأسس الثقافة الأصيلة فى بلدان الشرق والغرب.

ولا شك أن أحد الأسباب المهمة لذلك فى شرقنا العزيز يعود إلى حدوث ضعف أكاديمى ومهنى شديد ألم بمثقفينا الحاليين مقارنة بحقبة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضى. حيث كان محمد حسنين هيكل، ومحمد التابعى، وموسى صبرى، ويوسف إدريس... إلخ. وبينما هؤلاء العمالقة يصولون ويجولون بتحليلاتهم السياسية التى تتجاوز حدود مصر إلى الشرق الأوسط بل أحيانًا إلى العالم، حدث نوع من الانهيار الذى أصاب التعليم والآداب والفلسفة والتحليل وأيضًا أصاب الفنون بكل فروعها... إلخ. وجاء ذلك نتيجة مجانية التعليم والسخرية من المعلمين والمفكرين والمثقفين... إلخ، سواء من خلال المسرحيات والأفلام والمسلسلات أو الأغانى الهابطة، ثم اجتياح الفكر الدينى المتطرف بقرارات فوقية. أما فى الغرب فالسبب يرجع إلى سيطرة تيار النيوليبرالية والذى امتد إلى المجال الثقافى والإعلامى، حيث لم تكتف بالسيطرة على الاقتصاد والسياسة بل امتد هذا التيار إلى كل المجالات. هذا فضلًا على أن هناك ضعفًا أصاب الفكر الغربى حيث كان التطور الأكبر باتجاه «العلم» الأكاديمى النظرى على حساب نقد المجتمع وتحليل ظواهره ومكوناته... إلخ. هذا الوضع فتح المجال على مصراعيه لمختلف أشكال الفوضى والغوغائية والتى نرصدها اليوم فى البرامج الإذاعية والتلفزيونية وقوائم الكتب الأكثر مبيعًا سواء فى الشرق أو الغرب، وإن اختلفت الأسباب والمعطيات.

***
قال لى أحد المثقفين الأوروبيين إن قائمة الكتب التى تنشر ويتهافت عليها الشباب وتحتل قمة قائمة المبيعات اليوم لم تكن من الممكن نشرها من ثلاثين عامًا، بل لم يكن يُنظر إليها كأدب أو فكر.. وهكذا يبدو أن السوق ابتلعت فى طريقها كل شيء وليس الأدب وحده. والتهديد اليوم هو ابتلاع النظام الديمقراطى نفسه لأن السوق لم تعد مرادفًا أو معضدًا أو موازيًا للحرية كما كان من قبل، بل تحول إلى عقبة حقيقية أمامها. وعلينا فى هذه الحالة أن نستعيد مقولة «إيمانويل كانط» الخالدة فى مواجهة الأفكار والأقوال والفنون التافهة: «الاستخدام العمومى للعقل» وما أراد كانط قوله هو مشابهة بين استخدام العقل كمقلب أفكار تافهة وبين مقلب نفايات عمومى يستخدم لقضاء الحاجة. بالطبع عزيزى القارئ تستطيع أن تدرك معنى العمومى هنا، وبالطبع حالتنا فى الشرق الأوسط إن لم تكن أسوأ فهى ليست أفضل.. لذلك ارتفعت أصوات فى أوروبا تنادى بمنع تحول الأقليات والمهاجرين إلى قوة ثقافية خاصة فى ألمانيا، بدلًا من أن ترتفع للمطالبة بحماية التعددية التى ميزت دائما الفضاء العام هناك. قلت إننا فى الشرق الأوسط سبقنا أوروبا فى هذا الشأن فالأقليات لدينا من مسيحيين ويهود وبهائيين ونوبيين... إلخ، لا يُسمح لهم أن يكونوا قوة ثقافية، وذلك بداية من سبعينيات القرن الماضى رغم أن هناك محاولات جادة خاصة فى مصر لتصحيح الموقف.

إن وسائل الإعلام فى الشرق الأوسط وأوروبا اليوم تقوم بدور المحرض على الهشاشة الثقافية والأدبية وقد تحول الفضاء العام نفسه إلى سلعة، لقد اختفى منذ زمن المثقفون أصحاب الثقل سواء فى الغرب أو الشرق وهؤلاء كان لديهم القدرة على بناء رأى عام نقدى، وجيل مستنير ضد أنصار الظلامية الثقافية والدينية، لكن فلاسفة عصرنا انسحبوا لأنهم صاروا أقلية وغير مسموح لهم بالحديث، وإذا تحدثوا فهم غير مسموعين من الجماهير، لذلك اختاروا الابتعاد عن الرأى العام وانحصروا فى مجالات أكاديمية ضيقة.

لقد أصبحنا اليوم فى الشرق الأوسط وأوروبا من الصعب علينا التفريق بين الفيلسوف والصحفى المبتدئ، وإذا اتفقنا أننا وصلنا إلى هذه النقطة بالذات فنحن هنا أمام ما يطلق عليه «فن صناعة الوعى الغبى». لكن ربما تسألنى ــ عزيزى القارئ ــ ماذا أقصد بالوعى الغبي؟! هنا أستعير تعبير عالم السياسة الألمانى «هنفريد مونكلر» فى مقابلة تلفزيونية معه عندما قال (هناك قطاعات واسعة من الشعب، لا تتوافر لديها معرفة حقيقية ولا تبذل جهدًا لتحقيق ذلك، ومع ذلك فهى تعتقد وتتحدث فى جلساتها الخاصة والعامة وفى وسائل الإعلام وبثقة شديدة أنها «تعرف بالضبط ما الذى يحدث وما الذى سوف يحدث؟!»)... عندما سمعت هذه الكلمات قلت وكأن هذا الرجل يعيش بيننا، إنه تشخيص حقيقى وواقعى لما نحن نعانى منه. بلا شك أنك تتفق معى ــ عزيزى القارئ ــ أن هناك ثقافة مهيمنة اليوم، تشجع على تكاثر هذه القطاعات الواسعة، التى تدغدغ المشاعر البدائية للناس حتى إن بعض المراقبين والمحللين لاحظوا أن الصوت الأعلى فى المجتمع هو صوت الأغبياء، وأن الأذكياء اكتفوا بالنواح مع الأسف الشديد.

***
علينا أن نعترف أننا أمام صناعة للوعى الغبى، تمضى اليوم فى كل مكان على قدم وساق سواء فى المنطقة. والغباء ــ كما تعلم عزيزى القارئ ــ هو أقصر الطرق إلى الحقد وبالتالى الشعوبية، وهو أقصر الطرق أيضًا للتطرف. فالمتطرف الدينى يعتقد أنه يمسك بحقيقة الدين، ويطل علينا من الشاشة والمذياع والصحافة وبعض المنابر ليعلمنا أصول الدين والتدين بل والسلوك فى بيوتنا وأعمالنا فى حين أنه لا يعرفه، ولربما لا يملك حتى القدرة الفكرية اللازمة لدراسته، وفهمه. ويبلغ هذا الغباء مستويات مرعبة فى ظل أنظمة سياسية تؤسس للغباء فى دساتيرها ومؤسساتها التربوية والدينية والسياسية. وعلى الرغم من ذلك نحن نرى ما يحدث فى السعودية ومصر ودول أخرى من محاولات للتطوير، وهذا جهد مشكور ومتميز لكن هناك أحداث تقع تصيبنا بالإحباط تجعلنا نتساءل: هل يمكن أن يأتى وقت يمد فيه النظام مساحات الرأى لكل طوائف الشعب المصرى على تنوعه الثقافى والدينى والعلمانى؟ هل يأتى الوقت الذى فيه يتحول الوضع الحالى (للحماية من الإرهاب)، إلى الاستقرار السياسى طبقًا للدستور؟ متى يأتى الوقت الذى نحتمل فيه حرية الرأى مع رفع سقف حرية الإعلام؟.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved