أربع حكايات تجعل من مصر دولة كئيبة
احمد صفوت
آخر تحديث:
الأحد 29 ديسمبر 2013 - 9:20 م
بتوقيت القاهرة
أول محاضرة لي بكلية الطب كانت مادة الفسيولوجي، شرح المحاضر كيف أن الإنسان لا يبذل مجهودا ليتنفس، يحدث هذا بتلقائية، أنت لا تشعر بعملية التنفس وهي تحدث.
الأخبار على مواقع التواصل الاجتماعي مليئة بالحديث عن الكآبة، أنت تشعر أنك تتنفس غاز النيتروجين، تتحول رئتاك لكتلتين ثلجيتين، كأنك ترفع أثقالاً بهما، أيضًا هناك الحديث عن مضادات الاكتئاب المحرم تداولها إلا بروشتة طبية، الزولام ثم الزاناكس، هذا بالطبع بعد أن تفقد الأمل في الفيلوزاك، وهو العقار المسموح بتداوله بدون الرجوع للطبيب.
بلد بها حكايات كالحكاية التالية، تبدو الكآبة فيها رفاهية.
تذكر شعورك منذ ثلاث سنوات بالتحديد قبل الانفجار مباشرة. هل كان مشابهًا؟ أقل سوءًا؟
منذ ثلاث سنوات الجميع كان يترقب الانفجار الوشيك، رئتان ثلجيتان موشكتان على الانفجار.
أستاذ عبد الرحمن هو الوحيد الذي يملك حاسبًا آليًا
كنت طالبًا في مدرسة دار حراء الإسلامية بمحافظة أسيوط، وهي مدرسة تتصف بشدة مدرسيها إلى حد القمع، الوضع أشبه بمحاكم التفتيش، حتى أنني كلما مررت من جانب فصل سمعت التأوهات والاستعداد للضرب بجميع الأدوات الممكنة من الجلدة وحتى قدم كرسي، لم يكن الحاسب الآلي منتشرًا وقتها، حتى أن مدرستنا كلها امتلكت حاسبًا واحدًا لدى الأستاذ عبد الرحمن، محاسب المدرسة، لم يكن يحمل تلك الهراوات ملوحًا لطالب شقي مثلي، بالعكس كان يتركني وآخرين نشاهد حاسبه الأعجوبة، ونلعب اللعبة الوحيدة الموجودة به.
قبل العيد بأسبوع اعتقل الأستاذ عبدالرحمن من منزله، اكتشفوا بالداخل أنه مصاب بسرطان البنكرياس، رفضوا علاجه، قدموه بداخل نعش كهدية العيد لأهله المرتقبين.
لمن يعرف أستاذ عبد الرحمن، رئتاك الثلجيتان موشكتان على الانفجار.
الشارع كعقاب
النزول للشارع أصبح كخوض تجربة تدريب على القتال لفارس اسبرطي، لم ينجُ من تجربة الشارع إلا القليل، لديّ صديق تم الاعتداء عليه بغرض السرقة في وضح النهار ثلاث مرات، أنا أيضًا لدي تجربة بشارع الهرم الرئيسي.
فكرة النزول للشارع أصبحت مرعبة، الخوف أصبح يسيطر على الناس، حتى أنني اقتربت من رجل لأسأله عن عنوان ما، وجدته يهرول خائفًا مني، لا مواصلات، سائقو الأجرة يغشون في عداداتهم، صديقتي التي تقف بجانبي، تم التحرش بها من قبل راكب دراجة نارية، مرت الدراجة سريعًا كمرآة، رأيتني واقفًا أمامهم عاجزًا عن فعل شيء إلا الشعور بالانتهاك.
لمن يرى الداخلية جهازًا متسلطًا لا جدوى منه في الشارع إلا القمع، رئتاك الثلجيتان موشكتان على الانفجار.
بهنس المتجمد من البرد
لم أكن أعرفه، كنت أظنه شحاذًا يعبر من أمامي، ينزل ليتحسس الأرض بيديه بدون مبرر، يمر ليأخذ سيجارة ويذهب مبتسمًا، هو أيضًا شحاذ ومجنون، هكذا فكرت.
قال لي صديق، هو فنان تشكيلي، لم أصدق، لأني دائمًا أراه يفترش الأرض جالسًا عليها، الأرض ليست بمكان مناسب لفنان تشكيلي.
الأسبوع الماضي وبعد اكتشاف جثته تتلحف الأرض وتتجمد بردًا، دار الجدل حول موته، الجميع يلوم الجميع، البعض يلوم الظروف التي جعلت مبدعًا يموت من التجمد، البعض يلوم الآخرين لأنهم اكتشفوا مؤخرًا أن الأرض هنا لا تنثنى لتوفر الدفء لمن ينام عليها.
بهنس لا يكتب القصص ويرسم فقط، بهنس أيضًا يحب الغناء، هناك تسجيل له وهو يغني مبتسمًا، بهنس لديه روح.
لمن يشعر بالذنب تجاه بهنس، رئتاك الثلجيتان موشكتان على الانفجار.
المطاردون
ذهبنا لنقل والدة صديقي العائدة من تركيا، تحدثت كثيرا عن مأساوية الظروف التي يمر بها المطاردون من قبل الأمن هناك، بلغ بهم الوضع أن من يعيلهم هناك هم الهاربون من تسلط النظام السوري.
الكثير من العائلات تشردت لأن زائري الفجر- بعد أن زاروهم عدة مرات- يبحثون عن من يعيلهم.
الدكتور محمد واحد منهم، وهو حائز على الدكتوراة في الفيزياء من جامعة دايفس بكاليفورنيا، والمكرم من هارفرد على مجهوداته البحثية، رفض أن يبقى هناك ورجع هنا، ليصل به الحال وهو في الثامنة والستين من عمره أن عائلته لا تعلم مكانه وهو لا يراهم، بلغت زيارات الفجر لبيته ثلاث زيارات، ولما عجزوا عن إيجاده أشعلوا النار في سيارته، ابنه الجالس ليكتب هذه المقالة يفكر، لعله بخير.
يا أبي، رئتاي الثلجيتان موشكتان على الانفجار.
***
لكل من تسلط باسم الدين أو الوطنية، لكل من كان سببًا في معاناتنا، لكل من قيد حرياتنا، ومن تسبب في إحباطنا على مدار ثلاث سنوات، لكل من جعلنا نفكر في الرحيل، لكل من شارك، ولو بشكل غير مباشر في قمعنا النفسي، لدينا رئتان على وشك الانفجار.
لكل من عانى بوجوده في ذلك المكان الكئيب، لن تجدي معك مضادات الاكتئاب، مع الوقت سيعتادها جسدك، لا حل سوى أن تترك رئتك الموشكة على الانفجار لتنفجر.