فى حب أقباط مصر

كريم ملاك
كريم ملاك

آخر تحديث: الثلاثاء 29 ديسمبر 2015 - 8:20 ص بتوقيت القاهرة

علينا أن نتذكر مع قرب نهاية السنة كيف كان حادث تفجير كنيسة القديسين فى الإسكندرية عشية رأس سنة ٢٠١٠ مهم للشعب القبطى فى كشف نوايا الدولة آنذاك، وتبنى نظام مبارك خطاب حمايتهم، خاصة مع تصاعد ذات الخطاب مجددا الآن.

فى ظل هذا الاستمرار فى حب مصر والسعى فى هذا النهج يبقى حال الأقباط كما هو فى العنوان، أى بين معكوفتين وفكرة دوما تأتى لاحقا. وهذا أمر ليس بعجيب، فتاريخ الدولة الحديثة من بعد أنور السادات حافل بهذه العقلية التى تعامل الأقباط كأنهم فكرة لاحقة، فليس عجيب أن نرى مرشحين أقباط يقولون إن أولويتهم استصدار قانون بناء دور العبادة للمسيحيين دون التطرق لتفاصيله.

لكن كيف سيكون أداء هؤلاء النواب، هل سيكون مثل النائب السابق إيهاب رمزى الذى وقف جنبا لجنب مع محافظ الإسكندرية عندما نفى كليهما نزوح أى قبطى أو تهجيره قسريا من العامرية فى فبراير ٢٠١٢. إذا كان ذلك فنصبح نحن أمام مفارقة شديدة الخطورة وهى كون القضية القبطية محصورة بين قطبين تحددهما الدولة وتطغى وتقصى كل من هو ليس بهذه المعادلة التى تُقر بمفهوم الوطنية الذى يذيب وينحت معارضيه حتى يكونوا فى طور أليف.

***

فالمعركة الأخيرة فى مصر فى الانتخابات النيابية حُصرت بين كلٍ من حزب المصريين الأحرار المدعوم من مؤسسة رجل الأعمال ساويرس وقائمة فى حب مصر. خارج هذا الإطار هُم النواب الأقباط الذين رفضوا تسليعهم (حتى وإن كانوا سيسلعون من قبل رجل أعمال قبطى) من هذين الاتجاهين وخاضوا الانتخابات كمتسقلين مثل جون طلعت عن دائرة روض الفرج وشبرا الذى استقال من حزب المصريين الأحرار ورفض الانضمام لكيان «دعم الدولة» واصفا إياه بنسخة من تجربة الحزب الوطنى المنحل، وثروت بخيت النائب عن عين شمس بالقاهرة الذى استقال أيضا من حزب المصريين الأحرار. ولعل لنا عبرة فى استقالة عماد جاد الذى كان فى حزب المصرى الديمقراطى الاجتماعى وانضم للمصريين الأحرار حديثا. فهذان القبطيان حالهم بالتأكيد ليس حال أقباط المصريين الأحرار الذين فازوا فى الانتخابات عبر دعم ساويرس أو دعم قائمة فى حب مصر وبعض الأحزاب الأخرى الجديدة مثل حزب حماة الوطن أو مستقبل وطن الذين تشكلوا سريعا بعد ٣٠ يونيو ٢٠١٣ ولم يسمع أحد عن نوابهم الفائزين الذين خاضوا الانتخابات ــ أغلبهم إن لم يكن كلهم لأول مرة. ففى تفكيك الاحتفالات بأن هذا أول برلمان يحظى بهذه النسبة المرتفعة للنواب الأقباط، أى ٣٦ نائبا قبطيا، نفهم أن هناك بُعدا آخر فى الاحتفال بهذا الفوز المضلل بدلا من التركيز على فوز أمثال جون طلعت وثروت بخيت، واستقالة عماد جاد، وقانون بناء دور العبادة للمسيحيين.

***

هذا الطور هو ما يحدد حدود الذاكرة المصرية فى تَعمُد نسيانها أمور ــ مثل حفظ النيابة التحقيق فى واقعة تفجير كنيسة القديسين فى الإسكندرية عشية رأس سنة ٢٠١٠ وطعن الكنيسة على هذا القرار الغامض فى مجلس الدولة، الذى جاء بسبب عدم وجود أية أدلة من قبل سلطات التحقيق ــ أو تعمدها التذكير بعدة أشياء مثل هجوم الشرطة على الكاتدرائية المرقسية فى العباسية فى عهد رئاسة محمد مرسى أو عدد الكنائس التى أحرقت أو دمرت بعد فض ميدان رابعة العدوية، دون التذكير بفشل حملة الدولة فى جمع أموال لترميم الكنائس تحت صندوق ترميم دور العبادة.

لكن هذا النهج والإصرار على النسيان والتذكير الموالى للسلطة ليس بجديد، فحتى الإخوان وبعض الثوار تعمدوا نفس التكتيك فى إصرارهم على إنكار أى تعدى على كنائس بعد ٢٥ يناير، مثل الهجوم على كنيسة ماريمينا فى إمبابة فى مارس ٢٠١١، أو حتى الاحتفال بثورة ٢٥ يناير متناسين أن أثناء الـ١٨ يوما تم الهجوم على عدة كنائس مثل كنيسة رفح، بل وحتى الهجوم على كنيسة ماريمينا فى إمبابة أو إقالة محافظ قنا القبطى، تم إدراج مثل تلك الأحداث تحت طائلة «الثورة المضادة والماضى البائس لعهد مبارك». فحسب هذا المنطق كانت الأولوية هى «انتصار الثورة» بدلا من هذه الأمور التى كانت على أقصى تقدير، إن كانت أصلا على بال البعض، أحداث مؤسفة لكن معطلة عن الثورة بدلا من أن تكون جزءا من المعادلة الثورية. فنتذكر كلام فهمى هويدى عن ماسبيرو، عندما قال إن رفع مثل هذه المطالب يشتتنا «فنسينا شعار الفقراء أولا» فى تطور مخيف يجعل القبطى الفقير فى هوامش التاريخ أو حسب أكثر تقدير شأنا مسيحيا للكنيسة بدلا من كونه شأننا كلنا. وهذا درس مهم وعبرة لليسار المصرى «الستالينى» الذى يجنح بعضه لمساندة الدولة تحت شعار محاربة رجال الأعمال أو السلطة الإمبريالية، على اعتبار أن ذلك هو الخطر الأكبر وفى هذا المنطلق تصبح كل القضايا الأخرى قضايا ثانوية الاهتمام. فحتى الفقراء الأقباط بدلا من أن يكونوا حسب معادلة اليسار، أو هكذا كنت أتخيل، جزءا من كفاح الطبقة العاملة يصبحون فى أعين أمثال فهمى هويدى وبعض اليساريين شأنهم غير شأن الفقراء. هذا التفكير هو ذات التفكير الماركسى التقليدى الذى يعد كل اهتمامه هى ثورة البروليتارية التى تحمل العصا السحرية لحل كل شىء بعد وصولهم للحكم، وللأسف هذا كان سلوك بعض الثوار والسلوك المتوقع للإخوان فى انتظارهم واعتبارهم لأول انتخابات نيابية بعد ٢٥ يناير على أنها الخلاص.

***

و لكن هذا الإخفاق أيضا ليس المصدر الوحيد لحدود الذاكرة الوطنية المصرية التى تساهم بها المعارضة، فالدولة أيضا تلام على عدة أشياء مثل تعمد الرئيس السادات رفضه الاعتراف بحادثة الزاوية الحمراء، حينما قُتل عدة أقباط وبعض المسلمين نتيجة هجوم مسلح واستيلاء مسلمين على أرض مخصصة لبناء كنيسة عليها، وسمحت الشرطة باستمرار الاشتباكات لمدة ثلاثة أيام. فكل ما كان للسادات أن يقوله حول الموضوع هو إنه «خناقة على مياه غسيل».

فسياسيات السادات لبناء ذاكرة وطنية تعيش على شماعة المؤامرات الخارجية، رغم كونه أول من وضع يديه فى يد الصهاينة بعد تعديهم على أقباط القدس فى سلب دير السلطان وإعطائه للحبشة (ولنا عبرة فى هذا التعاون بين إثيوبيا وإسرائيل فى ضوء الملف المائى لمصر وصراعها مع إثيوبيا)، فتجدر الإشارة لخطابه فى ١٥ مايو ١٩٨١، حينما وقف أمام مجلس الشعب ليحذر الأقباط من مخططهم بدعم ميليشيات الفلنجية الصهيونية بإقامة دولة مسيحية فى الصعيد، ثم قرر فى سبتمبر ١٩٨١ نفى البابا شنوده الثالث وأيده مجلس الشعب حينئذ.

الأمر الذى سيتكرر فى حاضرنا الآن فى إحراج النواب الأقباط الذين تبوؤوا مناصبهم عبر «قائمة فى الحب» وتحالف دعم الدولة الذى يسعى لحماية مصر أيضا من خطرٍ داهمٍ مزعم عبر فرض المعادلة الحساسة عليهما، لكنها المعادلة بالتأكيد المرغوبة من منظمى قائمة فى حب مصر الذين يناقشون قانون بناء دور العبادة للمسيحين، فى الاختيار بين حبهم لمصر ــ الذى أصبح حسب المعادلة تعريفه دعم «لمصر» غير مشروط للحكومة لتمرير قانون بناء دور عبادة للمسيحيين يكون تعسفيا وتعجيزيا ودعم هذا الاتجاه يكون عينيا ــ وحبهم لأقباطهم الذين كل ما يطلبونه طيلة أكثر من نصف قرن قانون عادل لبناء دور عبادتهم.

لكن يبقى السؤال هل سيتم ترسيخ تمرير قانون بناء دور العبادة للمسيحيين، على أنه انتصار للدستور والمسيحيين؟ أم سنتذكر حقيقة الأمر فى سلطويته مثلما تذكرنا حقيقة ما فعله السادات؟

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved