لنركز على الأمراض بدلا من العوارض

علي محمد فخرو
علي محمد فخرو

آخر تحديث: الخميس 29 ديسمبر 2016 - 9:55 م بتوقيت القاهرة

الأحداث الكبيرة والمآسى المفجعة التى تجتاح المجتمعات العربية منذ بضع سنين لا يمكن إلا أن تؤدى إلى ضعف التركيز والتشتت فى ذهنية الانسان العربى. فهو يجد نفسه منشغلا بأهوال من مثل الممارسات غير العقلانية لما يسمى بالخلافة الإسلامية فى العراق وسوريا، أو من مثل البربرية التى تتفنن فى ممارستها شتى الجماعات التكفيرية الجهادية العنفية فى كثير من بقاع الوطن العربى، أو التحسر على خراب ودمار أبهى المدن العربية التى كانت عبر القرون رمزا للعمران والتحضر، أو من مثل الحقارات التى تمارسها السلطة الصهيونية بحق الشعب العربى الفلسطينى والتدخلات الاستعمارية التى تستبيح استقلال وثروات الوطن العربى.

لكن كل تلك الأهوال والفواجع المتنامية ليست إلا عوارض لأمراض خطرة متجذرة فى الكيان العربى. ولذلك فالانشغال اليومى بتحليل تلك العوارض والاختلاف حول تفاصيلها والتعبير عن الغضب الشديد تجاه إسقامها لأمة العرب المنكوبة يؤدى، كما قلنا، إلى التشتت فى الذهن، أولا بسبب الانتقال اليومى من موضوع عارض إلى موضوع عارض آخر، وثانيا بسبب الانشغال الشديد عن تسمية الأمراض المسببة للعوارض وعلاجاتها المطلوبة.

***

ما يحدث فى أرض العرب فى هذه المرحلة التاريخية الحرجة هى عوارض لواحد من ثلاثة أمراض مستعصية.

فأولا، هناك مرض التمزق السياسى الإقليمى القومى العربى، متمثلا فى سقم وقلة حيلة وتخبط الجامعة العربية وتهميشها شبه التام من قبل القوى الخارجية من جهة وأيضا من قبل الصراعات والمماحكات العبثية فيما بين أنظمة الحكم العربية من جهة أخرى. تجرى يوميا مداولات واجتماعات، وتتخذ قرارات مصيرية، بشأن الأوضاع فى سوريا وليبيا واليمن والعراق والإرهاب الدولى وتعقيدات ظاهرة هجرة الملايين من العرب إلى الخارج غير المرحب بها أو المعادى لها، لكن الإنسان العربى لا يسمع جملة واحدة مفيدة عن رأى الجامعة العربية أو الدور الفاعل الذى تلعبه. إن تهميش الجامعة العربية أصبح كارثة ومرضا له أعراضه الكثيرة.

هذا الغياب الفضيحة للتضامن القومى العربى، بحدوده الدنيا، سواء على مستوى الجامعة العربية الرسمى، أو على مستوى التنسيق والعمل المشترك فيما بين قوى المجتمع المدنى العربى النضالية، هو المرض الذى سمح لقوى الخارج ولقوى الإقليم وللكيان الصهيونى فى أن يحيلوا الأرض العربية إلى خراب وبكائية حقيرة.

وثانيا، هناك الإصرار المرضى التاريخى عند سلطات الدولة العربية الوطنية، إلا من رحم ربى، على ابتلاع مجتمعاتها ومنعها من ممارسة دور ديمقراطى ذاتى وتشاركى فى مواجهة تلك الأهوال.

هذا بينما يسمح لأية قوى مجتمعية انتهازية أو فاسدة أو ثرثارة مظهرية لأن تتواجد فى الساحات السياسية أو التشريعية أو الإعلامية طالما أنها تتصرف كتابعة أو منافقة أو سلبية أو متعايشة مع الجحيم الذى يحياه العرب.

وثالثا، هناك المرض المستفحل المزمن المتمثل فى التخلف الثقافى العربى الذى له تأثيراته البالغة على ما يجرى حاليا فى الأرض العربية. وبالطبع هذا موضوع مترامى الأطراف، وما يهمنا هو الإشارة إلى الجزء المتعلق بجحيم الجهاد التكفيرى المتوحش الذى تعيشه الأمة حاليا.

ذلك أن المنطلقات الفكرية لظاهرة الجهاد تلك، والقدرة الهائلة التى تملكها لإقناع وتجييش الألوف من الشباب الجهاديين الانتحاريين، تعتمد على ثقافة فقهية امتلأت عبر القرون بأفكار وأقوال بالغة التزمُت والتخلف، الأمر الذى يجعلها غير صالحة لهذا العصر، وبالتالى بحاجة إلى تنقيح وإعادة نظر.

فإذا أضيف إلى ذلك ما لحق بحقل الحديث من دس وإضافات لأسباب سياسية أو لإيجاد تبريرات لتصرفات هذا الحاكم أو ذاك أو لترجيح كفه هذا المذهب أو ذاك، فإننا أمام مهمة ثقافية كبيرة لمراجعة علوم الأحاديث النبوية من جهة وعلوم الفقه من جهة أخرى، وتنقيحها من الغث الذى يجعلها قابلة للاستعمال السيئ والانتهازى واللاعقلانى من قبل شتى فرق الجهاد التكفيرى.

المطلوب من تلك المراجعة هو العودة إلى القرآن بعد أن غيب وأبعد، لأسباب كثيرة، عن مسرح الحياة الدينية عبر القرون. عودة القرآن، كميزان ومرجعية وحكم، ستظهر كما هائلا من التلفيق والأخطاء التى لحقت بالتراث العربى الإسلامى.

المطلوب أيضا هو إرجاع الوهج لاستعمال العقل والمناهج العقلانية إلى ساحة الثقافة الإسلامية بعد أن نجح المتزمتون والمتخلفون عبر القرون فى إبعادهما عن مسرح الفهم الدينى.

والمطلوب أخيرا هو إيجاد فصل تام وواضح بين ممارسة الطائفية المتزمتة المنغلقة وبين سماحة التعددية فى الاجتهاد وفى قراءة مقاصد الدين الكبرى.

كمثال على ما نعنيه من أهمية للمراجعة ما وضع على لسان النبى الكريم الإنسانى المتسامح: «يجىء يوم القيامة ناس من المسلمين بذنوب أمثال الجبال، يغفرها الله لهم ويضعها على اليهود والنصارى». أمام مثل هكذا حديث منسوب إلى رسول الإسلام، والذى يتناقض كليا مع الوحى الإلهى العادل الرافض لأن تزر وازرة وزر أخرى، هل نستغرب أن نرى ونسمع ما تفعله داعش وأخواتها بحق الأبرياء من المسيحيين فى العراق وسوريا؟

***

مراجعة الجزء الدينى من الثقافة العربية، سيكون مدخلا كبيرا ومفصليا لمراجعة الثقافة العربية برمتها وتصحيح ما علق بها من تشويهات عبر الحقب التاريخية الطويلة.

باختصار، فإن ما يشاهده الإنسان العربى يوميا من أحداث مفجعة جسام لا تخرج عن أن تكون عارضا من عوارض الأمراض الثلاثة التى تفتك بالجسم العربى فى مرحلتنا التاريخية الحاضرة. الخروج من أى أمراض هو بمعالجتها وإزالة أسبابها، وليس بمعالجة أعراضها.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved