القديمة تحلى...

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: السبت 29 ديسمبر 2018 - 10:39 م بتوقيت القاهرة

لن يكون بالطبع في العاصمة الإدارية الجديدة شوارع وحارات تحمل أسماء من عاشوا فيها قديما من أصحاب مهن إلى بكوات وأفندية، فهي ليست محملة بثقل التاريخ كالقاهرة. لن نحتاج إلى فك ألغاز هذه المدينة أو التكهن بحكاياتها مثلما نفعل حين نمشي في سوق السلاح أو حارة الليمون أو زقاق المدق أو درب شكمبة، فكما يحدث عند إنشاء عواصم جديدة يكون الهدف بشكل أو بآخر البعد عن المعنى التاريخي والرمزي للقديم من أجل بدء حقبة مختلفة. لن نتوقف مثلا عند من هو "شكمبة" صاحب الدرب الذي يقع في حي السيدة زينب وكيف كان لدرب شكمبة محطة راديو خاصة به في بداية ظهور الإذاعات الأهلية في مصر، أنشأها تجار وبائعو الشارع للترويج لسلعهم وإذاعة الأخبار الاجتماعية، ولن نقارن بالتالي بين إمكانية تأسيس أدوات إعلام محلي وقتها وما آلت إليه القوانين الآن أو الحال التي أفرزها المجتمع نفسه.
قد رأينا هذا النوع من القطيعة أو الفصل بين مرحلتين ودلالاته عند تغيير عواصم دول أخرى غيرنا، وعلى رأسها تركيا عندما نقلت العاصمة من استانبول إلى أنقرة في العام 1923، فغالبا ما تعكس المنافسة بين العاصمة القديمة والجديدة طريقتين مختلفتين لرؤية العالم، بغض النظر عن مدى صحة الرؤيتين ووجاهتهما. لكن التاريخ العمراني للمدن يرتبط ارتباطا وثيقا بتركيبة نظام الحكم وتوجهاته، هل يتوجه للداخل أكثر أم للخارج؟ هل يسعى للانفتاح أو الانغلاق أو المركزية أو تأكيد الهوية أو يعتمد على ما قد يسمى بالعمران الأمني فينتج ما هو أشبه بالمنطقة الخضراء في العراق؟ كل ذلك يطرح عند تأسيس مدينة جديدة أو نقل العاصمة.
***
أثارت انتباهي التجربة التركية بهذا الصدد، ربما بسبب قربها الجغرافي نوعا ما أو لحبي لاستانبول، درة البوسفور والمتوسط، حيث امتزاج التاريخ والأعراق والقارات. قرر الضابط مصطفى كمال أتاتورك، مؤسس تركيا الحديثة، أن يحول بلاده من إمبراطورية عثمانية متعددة الأعراق والأديان إلى دولة قومية ذات طابع جمهوري. كان ذلك في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى وانتصاره- بدعم روسي- في حرب الاستقلال التركية (1922-1919) ضد اليونان وفرنسا وأرمينيا والمملكة المتحدة وإيطاليا والدولة العثمانية. جعل من أنقرة، المدينة الأناضولية الصغيرة التي اشتهرت بصوف الموهير وماعز الأنجورا، مركزا لتنظيم صفوف المقاومة والوحدة الوطنية. استعان بعدها بمهندسين ومعماريين من ألمانيا والنمسا لتغيير شكل المدينة، وتدريجيا تطورت من سكنة للموظفين سيئة الذوق إلى مركز للحكومة يظل باردا وباهتا نوعا ما، حتى مع التحول من الزركشة المبالغ فيها إلى مبان أكثر بساطة وعصرية في الثلاثينات. خلال هذه الحقبة نفسها تغير اسم العاصمة القديمة من القسطنطينية عاصمة الخلافة العثمانية إلى استانبول، وعلى عكس هذه الأخيرة لم تحتوي أنقرة على مسجد واحد حتى الستينات، تعبيرا عن العلمانية التركية الجديدة.
***
كان ضمن المباني العصرية التي أمر بتشييدها أتاتورك قصره "المودرن" أو مقر حكمه الذي انتصب فوق التلال ليكون شاهدا على العصر والتحولات التي ستأتي فيما بعد مع وصول حزب التنمية والعدالة الإسلامي إلى السلطة، فعلى أطراف أنقرة أيضا افتتح الرئيس رجب طيب أردوغان سنة 2014 قصرا منيفا على مساحة 200 ألف متر مربع، استحضر فيه طراز دولة السلاجقة العظام ( 1194-1037)، في إشارة واضحة لمكانة هذه الدولة الإسلامية التي تأسست على يد سلالة تركية والتي لعبت دورا كبيرا في تاريخ العباسيين والحروب الصليبية والصراع الإسلامي البيزنطي. كما لو أنه أراد التأكيد على تحفظاته تجاه الإرث الأتاتوركي، وبالتالي اتجه حزبه وزعاماته أكثر إلى استانبول لاستعادة المجد القديم، ونقلوا إليها العديد من المقرات الاقتصادية الهامة، خاصة وأن المدينة بتنوعها وانفتاحها تتماشى مع روح العولمة. هوية تصارع الأخرى وتسعى لإزاحتها. والتحول لا يتم بسهولة، وتدفع ثمنه أحيانا المدن التي يسعى الحكام أن تكون واجهة و"فترينة" لهذا النظام أو ذاك.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved