سيرة ذاتية .C.V

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الأربعاء 30 يناير 2013 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

أتعاطف مع كل شخص، امرأة أو رجلا، يبعث بسيرة حياته لجهة ما باحثا عن وظيفة أو معرفا بنفسه. أتعاطف معها أو معه لأننى أعرف كم أخذت هذه السيرة من الوقت للإعداد، وكم دخل عليها عبر السنين من إضافة وحذف أو تطوير وتحسين. أتعاطف لأننى أعرف كيف سيتعامل معها المسئول فى الجهة المرسلة إليها . سيتعامل معها بروتينية باردة وباكتراث قليل لا يتناسب أيهما أو كلاهما مع ما بذله صاحب السيرة من جهد فى إعدادها وما وضعه من آمال عليها.

 

•••

 

معظم المسئولين يطلعون أول شىء فى السيرة الذاتية على صورة صاحب السيرة وتاريخ الميلاد. هنا يبدأ الإقصاء. البعض يفضلهم صغارا ويستبعد  الذكور وآخر يستبعد الإناث قبل أن يصل إلى معلومات أخرى . أعرف واحدا بيده مصائر السير الشخصية يبدأ قراءتها من نهاياتها حيث تصطف التوصيات من شخصيات معروفة.

 

•••

 

لا يفكر مسئول،  ولو للحظة واحدة، فيما عاناه صاحب أو صاحبة السيرة الذاتية ليقدم فى هذه الوريقات القليلة سيرته فى أبهى صورة ممكنة وبإيجاز شديد،  وفى الغالب هو الإيجاز المخل وغير المنصف. المعلومة بسيطة ومباشرة تبلغنا أنه قضى عامين فى روضة الأطفال وأربعة فى الابتدائية وثلاثة فى الاعدادية وثلاثة فى الثانوية. هل فكرنا ونحن نقرأ كم من صباح مبكر استيقظ فيه وهو طفل يبكى متمارضا لأنه لا يريد الخروج من البيت، كم من معلم أو معلمة أذاقته العذاب فى المدرسة الابتدائية بسوء معاملتها له أمام زميلاته وزملائه. كم من يوم عاد ليرمى نفسه فى حضن أمه ودموعه على خديه لم تجف بعد مشاجرة مع طفل أقوى،  أو خائفا من انتقام أستاذ هدده بضربة عصا من ناظر المدرسة فى طابور الغد. كم من المرات أفاق بالليل مذعورا يرتعش منذ أن وعدته معلمة الدين بنار جهنم يشوى فيها يوم القيامة.

 

•••

 

كثيرا ما نقرأ فى سيرة شخصية وفيما لا يزيد على خمس أو ست كلمات  أن صاحبة السيرة أو صاحبها حصل على شهادة الدكتوراه من جامعة كذا فى الخارج . أتوقف دائما أمام هذه المعلومة،  بل لا أملك إلا أن أتوقف وأتساءل. أليس من حق صاحب أو صاحبة السيرة أن نمنح هذه الكلمات الخمس أو الست ما تستحقه من ترو واهتمام. لا يخطر على بال كثيرين  أن صاحبة هذه السيرة أو صاحبها قضى سنوات لياليها كنهارها قابعا فى ركن أو آخر من أركان مكتبة الجامعة التى درس فيها أو جالسا امام مكتب شاحب اللون فى غرفة ضيقة بشقة متواضعة بمنزل متهالك بشارع فرعى فى حى بسيط . هؤلاء ربما لا يعرفون أن صاحبة هذه السيرة أو صاحبها كان يوفر من منحته الدراسية أو دخله المتواضع ما يكفى بالكاد لشراء وجبة ساخنة مرة فى الأسبوع. هذه المعاناة، وما أصعبها، جاءت فى كلمات خمس أو ست فى سطر واحد من سطور السيرة الذاتية.

 

•••

 

كانت فى الغالب تحديات كبار تلك التى تغلب عليها صاحب السيرة الذاتية خلال مشواره الطويل ولم يسجل منها إلا أقل القليل . هل سألت نفسك وأنت تقرأ سيرة ذاتية لشخص يتقدم لوظيفة إن كان هذا الشخص قضى طفولة سعيدة ونشأ فى بيت يسوده الوئام واشتبك حين صار شابا فى علاقات عاطفية وانسانية بعضها ترك علامات واضحة  وجروحا منها الغائر.  نحن لا نسأل أصحاب السير الذاتية هذا النوع من الأسئلة رغم أن ذوى الخبرة فينا يعرفون قيمتها وأهميتها إن شئنا درجة أعلى من الجودة والاستقرار فى العمل.

 

•••

 

لماذا لا نسأل أصحاب السير عن مواقف تثبت شهامتهم أو تؤكد انسانيتهم،  وعن تجارب جلبت لهم الثناء والتمجيد وغرست فى نفوسهم حاسة تذوق طعم الفخر والزهو.  كثيرون من أصحاب السير الذاتية الذين قابلتهم اعترفوا بأنهم يخجلون من تسجيل مواقف وتجارب اعتقادا منهم أن سردها يخجل تواضعهم وربما لا يتصل مباشرة بطلب الحصول على وظيفة . مخطئون وقلتها لهم . أحدهم استأذن فى أن يحكى معلومة لم يكتبها فى سيرته .

 

•••

 

عاد بمقعده الى الوراء وتغير بريق نظراته وعلت هامته وبدأ الحديث عن «اليوم المشهود» . إنه اليوم الذى استعد له على مدى سنوات الدراسات العليا، وقد جلس متوترا فى قاعة درس بالجامعة التى كان يدرس فيها بالخارج،  ينتظر استدعاءه للامتحان الأخير أمام جوقة من أشعر علماء عصره،  امتحان يؤديه من أكمل تحصيل العلم واستعد لمرحلة الإبداع، . دخل عليه أحد أساتذته ليشجعه وقد سمع بتوتره،  قال له وما أحلى ما قال، قال هل تعرف يا صديقى أنك اليوم أكثر علما منا جميعا . أصارحك بأن أكثرنا فى هيئة الممتحنين نتلهف لنسمعك. أنت بالنسبة لنا كنز . عندك وحدك آخر ما وصل إليه العلم. أنت آخر إنسان قرأ آخر ما كتب ونشر.

 

•••

 

مثل هذا التصريح الرائع فى معناه وفى حكمته، ومثل هذا الامتحان بكل الشقاء الذى سبقه والفرح الذى أعقبه، لا يراه المسئول الكبير أو الصغير الذى يبحث فى السير الذاتية الملقاة على مكتبه عن شخص تنطبق عليه الشروط للتعيين فى وظيفة. ليتنا نعرف أن وراء كل سيرة ذاتية قصص نضال وجهد ودواعى فخر لا تحكيها المعلومات الواردة فيها.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved