حمى الله مصر

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الأربعاء 30 يناير 2013 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

كشفت الأحداث المحزنة التى شهدتها مصر، بعاصمتها ومدن قناة السويس ومراكز المحافظات الأخرى، خلال الأيام القليلة الماضية، مأساة أن تكون «الثورة» بلا قيادة واضحة ومعروفة وبلا برنامج محدد يكشف مواقف القوى السياسية من القضايا المطروحة، بما يسهل التحالفات وحدود الاختلاف مع المعارضة عموما، ومع السلطة بالدرجة الأولى.

 

.. هذا فضلا عن أن «الرئيس» الذى وصل إلى السدة بهدف منع «غيره» من الوصول، لتعذر إمكان وصول المرشح الأقرب إلى شعارات الثورة والأقدر على التعبير عنها بطموحاتها العالية، قد جاء بالتزامه الحزبى محاولا تخفيفه بالتعهد بشراكة كاملة مع قوى الثورة. لم تعمر طموحاته طويلا بل جرى إسقاطها عند باب القصر الجمهورى فى اليوم التالى لاستقراره فيه.

 

•••

 

لقد كان «الميدان» أرض لقاء بين قوى سياسية واجتماعية، بعضها «تاريخى» معتق، ومعظمها شبابى تطاول طموحاته السحاب، إضافة إلى قوى سياسية واضحة الشعار وإن كان «تنظيمها» أضعف من أن يستطيع حمله إلى قمة السلطة.

 

كانت نقطة الإجماع بين هذه القوى المختلفة ضرورة إسقاط حكم الطغيان.. ولكنها لم تكن قد استعدت لما بعد إسقاطه، ربما لأنها لم تكن تتصور ان السلطة التى كانت تتبدى «حديدية» ستنهار بهذه السرعة، وبهذه السهولة، أو ربما لأن جماهيرها التى تلاقت على غير موعد ومن دون برنامج موحد قد بوغتت وارتبكت ولم تعرف أو أنها لم تكن تملك أن تتصرف مع «السلطة» التى وقعت أرضا.. فكان أن تولاها الجيش، اضطرارا، وكوكيل تفليسة، وريثما يحضر الأصيل المجهول!. وحين تم استحضار «البديل» كانت الثورة بشعاراتها وأهدافها قد غادرت الميدان محبطة. والإحباط يستولد الخلاف والشقاق وتبادل الاتهام بالمسئولية عما وقع من خارج التصور أو المرتجى.

 

ليس ذلك حديثا عن الماضى وفيه، بل هى محاولة لتفسير حالة الاضطراب الراهن التى تسود مصر نتيجة وصول «رئيس» ببرنامج غير الذى كان ينادى به «الميدان»، وكذلك نتيجة انفراط عقد الميدان عبر مسلسل من الاستفتاءات الوهمية، وعبر استعراضات حزب الحكم وحلفائه بالسلاح، مما فرض مناخا غير صحى، وأربك قوى «الميدان» التى ما زالت تشكو افتقارها إلى قيادة فاعلة ببرنامج محدد يعيد تأطير الجماهير التى ترى نفسها مضيعة بعد عامين طويلين من أشكال الاحتجاج الجماهيرى بالتظاهرات والمسيرات التى وصلت إلى القصر الرئاسى فحاصرته، ثم عادت إلى «ميدانها» تنتظر قيادة فاعلة تحدد لها الخطوة التالية.

 

وبالتأكيد فإن الأحداث التى توالت خلال الأيام القليلة الماضية، قد كشفت فشل سلطة الإخوان بكل الدماء التى أسيلت خلالها خصوصا فى مدن القناة التى تحفظ لها الذاكرة العربية موقعا مميزا نتيجة البسالة التى واجه بها أهلها العدوان الثلاثى على مصر، إثر القرار التاريخى بتأميم قناة السويس الذى اتخذه الرئيس الراحل جمال عبدالناصر يوم 26 يوليو 1956.. وهكذا عبر صمودها بالتضحيات الجسام خلال حرب الاستنزاف 1968ــ 1970 ثم خلال حرب رمضان ــ العبور وبعدها.

 

وفى الذاكرة الشعبية العربية تحتل بورسعيد مكانة مميزة تدانى القداسة.

 

من المؤسف الاعتراف أن حالة الاضطراب التى تسود مصر ستستمر بكل انعكاساتها السلبية على أوضاعها (والأوضاع العربية عموما) إذا استمر غياب القيادة المؤهلة للمعارضة ببرنامجها السياسى المعلن كقاعدة للتلاقى بين مختلف القوى رافضة هيمنة الحزب الواحد (الإخوان) وشركائه والتوجه المتزمت الذى يكاد يُخرج المسلمين من إسلامهم، فضلا عن موقفه «العدائى» من الأقباط.. هذا قبل الحديث عن موقفه الهيولى من الإدارة الأمريكية ومطالبها المعلنة وأولها وأخطرها عدم التعرض للعلاقة المهينة مع إسرائيل، ثم المضى بسياسية الانفتاح إلى مداها بغض النظر عن نتائجها على اقتصاد البلاد ولقمة عيش العباد.

 

•••

 

ولقد كان من الطبيعى أن ترفض جبهة الإنقاذ الوطنى، إذا ما اعتبرناها قيادة سياسية للأكثرية من جماهير الميدان، (الدعوة المتكررة) للحوار التى يطلقها الرئيس محمد مرسى كلما واجه مشكلة، من دون أن يحدد للحوار أسسا واضحة تفضى إلى نتائج تلبى المطالب البديهية للشعب، وأولها إنهاء فترة الحكم المتفرد الذى يخفى فى طياته حكم جماعة حاولت ولا تزال تحاول احتكار السلطة، برغم فشلها المفضوح فى معالجة مشكلات البلاد، وهى خطيرة ومعقدة وتهدد بانهيارات مريعة فى الاقتصاد والاجتماع، والتأخير فى علاجها سيقود إلى كارثة وطنية فعلية تذهب باستقرار مصر وأمان شعبها وأحلامه فى الثورة التى كان يأمل منها أن تفتح أمامه أبواب الغد الأفضل.

 

لقد ثبت بالدليل الحسى، لأهل مصر كما لمن هم خارجها، أن حزب الإخوان يحاول فرض هيمنته بسلطة لا تملك برنامجا للنهوض بالبلاد، لا فى المجال الاقتصادى ولا فى الاجتماعى..

 

كذلك ثبت شرعا أن رئيس الجمهورية ليس حرا فى حركته بل انه يطلق الوعود والتعهدات جزافا، ويوجه دعوات إلى حوار من دون مضمون، ولعله لا يريد منه إلا الصورة مع معارضيه للادعاء أنه نجح فى إقامة الوحدة الوطنية، فإن رفضوا ــ وهم لا بد أن يرفضوا ــ ألقى الحجة عليهم واتهمهم بأنهم يتقاعسون عن إنقاذ بلادهم، وهم فى حقيقة الأمر يرفضون أن يشاركوا فى المسئولية عن ضياع مصر.

 

ولقد «شاخ» حكم المرسى وهو لما يبلغ عامه الأول، فتبدى فى عجزه وفى انعدام خياله وفى ارتباك قراره وكأنه فى الأيام الأخيرة لولايته.

 

وأكثر ما تخشاه الجماهير العربية خارج مصر أن يركب الإخوان رءوسهم. وأن يمضوا فى المحاولة المدمرة للانفراد بالحكم، وهى محاولة فاشلة لكن فشلها عظيم الكلفة.. ولن ينفع فى التبرير اتهام جبهة الإنقاذ الوطنى بأنها المسئولة عن الفشل. فحين كانت المشاركة ضرورة وطنية امتنع حكم الإخوان عن الالتزام بموجباتها، وهم ما زالوا يمتنعون عنها. فلا تكون الدعوة للقاء الوطنى الجامع عبر خطاب متوتر ملىء بالتهديد والوعيد يخلص إلى فرض منع التجول ليلا على المدن الكبرى الثلاث على امتداد قناة السويس. ثم بالتشريع لتولى الجيش سلطة الحاكم العرفى.

 

•••

 

ان إخوان مصر يتبدون متعجلين احتكار السلطة، مع معرفتهم أن أعباءها أثقل بكثير من أن يستطيعوا احتكارها إلا بالعسف، ومن دون برنامج جدى ومقنع للميدان بل ولجماهير الشعب المصرى عموما.

 

ومن خلال القرارات الخاطئة والمرتجلة التى حفلت بها ممارسات «السلطة الإخوانية» على امتداد الشهور السبعة الماضية، من حق المصريين ان يخافوا على حاضرهم وعلى مستقبل بلادهم من هذا الحكم الذى يهتم بإرضاء الخارج أكثر بكثير من اهتمامه بوحدة شعبه ومطالبه الملحة.

 

بل إن هذا الحكم سوف يتحمل المسئولية تاريخيا عن إضاعة فرصة نادرة لتوحيد «الميدان» بقواه السياسية والفكرية والاجتماعية المؤهلة خلف برنامج عملى وعصرى ينهض به هذا الشعب القادر ــ بوطنيته الصافية وإخلاصه لبلاده ــ على التعويض عن الزمن الذى أضاعه حكم الطغيان والذى يتهدده «حكم المرشد» بمزيد من الضياع.

 

•••

 

إن ثورة مصر فى خطر.. بل إن مصر كلها فى خطر، ولن ينفع تشاطر من آلت إليه السلطة بمصادفة قدرية فى أن يمنع الكارثة.

 

إن أهداف الثورة واضحة ومعلنة. والمطلوب سلطة مؤهلة على الإنجاز.

 

وما زالت الفرصة متاحة، وان كانت الظروف الآن أصعب والتضحيات المطلوبة أعظم جسامة.

 

إن المطلوب ــ مرة أخرى ــ إنقاذ مصر، ولا يكون ذلك بحكم فرد أو جماعه مثقلة بتاريخ ليس مضيئا تماما، ولا يبرر «الظلم» النقص فى برنامجها، أو الرغبة العارمة بالتفرد.

 

وليس فى الخطوات المتخذة، حتى الساعة، ما يطمئن إلى الغد.

 

وفى انتظار إعادة صياغة الحكم، فى هذه المرحلة الحرجة، عبر جبهة وطنية حقيقية تضم كل المؤهلين والموثوقين، أصحاب الرؤية والأفكار والخبرة والعلم والوعى، سنظل نردد ــ بخوف ــ حمى الله مصر.

 

 

 

رئيس تحرير جريدة «السفير» اللبنانية

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved