الرقابة الإدارية تلبّى النداء

مدحت نافع
مدحت نافع

آخر تحديث: الإثنين 30 يناير 2017 - 10:50 م بتوقيت القاهرة

كثيراً ما ناديت بسد منافذ الفساد المؤسسي وغلق مجارير الرشوة والمحسوبية ومنع الهدر فى مختلف دواوين الدولة وهيئاتها قبل الإقدام على فرض مزيد من الضرائب أو إعلان حالة التقشّف. الاستجابة الحكومية لنداء وقف الهدر والفساد جاءت على استحياء من عدد من الفاعلين الحكوميين وبتوجيهات رئاسية فى الغالب، تارة من وزارة الكهرباء بمحاولة حصار سرقة التيار الكهربائي والتعدي على المال العام وذلك عبر إحلال العدادات الكودية محل العداد التقليدى، ونشاط شرطة الكهرباء فى تحرير المحاضر ضد التعديات المختلفة.

محاولات أخرى هنا وهناك لمنع التعدّى على مياه النيل ومنع تجريف التربة الزراعية وتبويرها هى الأخرى محاولات غاية فى الأهمية لحصر جانب من ثروات الدولة الطبيعية قبل الشروع بتوسيع الرقعة الزراعية من خلال مشروعات كبرى جديدة.
المنافذ الجمركية هى الأخرى وقطاعات مختلفة فى وزارة المالية تعانى من اختناقات عديدة ينتج عنها فاقد كبير لموارد هامة للدولة، الحصيلة الجمركية تتراجع كثيراً أمام التلاعب الذى تشهده المنافذ بشهادة تقرير البنك المركزي المرفوع للبرلمان آنفاً والذى أرجع فيه أزمة العملة الصعبة إلى عدد من العوامل أبرزها عدم إحكام الرقابة على المنافذ الجمركية وسهولة التلاعب بفواتير الاستيراد .. الحصيلة الضريبية أيضاً تتراجع أمام مليارات الجنيهات الموقوفة على ذمة قضايا التهرّب الضريبي ناهيك عمّا لم يدخل المحاكم أصلاً بفعل الفساد أو العجز عن حصر المموّلين بكفاءة.
***
وحدها هيئة الرقابة الإدارية التى ما إن أطلقت أياديها لغلق محابس الهدر والفساد حتى تحوّلت إداراتها النشيطة إلى مصدر هام من مصادر الدخل القومى فضلاً عن الرقابة الناجعة لمختلف المؤسسات!.. لا أكتفى فى سبيل دعم تلك الحجة بإحصاء مئات الملايين التى ضبطت فى قضايا فساد مالي مؤخراً، وإنما أحصى مليارات الجنيهات التي تمكّنت الهيئة من توفيرها ومنع تسريبها إلى خارج الموازنة العامة للدولة بفعل ضبط الفاسدين، ومنع إتمام صفقات على حساب المواطن البسيط تقدّر بحساب الفرصة البديلة بعشرات المليارات. قضية رشوة واحدة بقيمة مليون جنيهاً منعت تسرّب نصف مليار جنيهاً خارج إيرادات الموازنة العامة من باب واحد لهذا الإيراد وهو الضرائب العقارية!! (نشر لى مقال عن الضرائب العقارية وأبواب الفساد فى 4 ديسمبر الماضى أى قبل واقعة الفساد المضبوطة) الأزمة إذن ليست فى التشريع الذى يحتج به دائماً لتبرير فشل عمل الجهاز الإداري للدولة. كذلك لا تكمن الأزمة فى اللوائح التنفيذية والقرارات الصارمة وإنما فى آلية الرقابة على التنفيذ، ووضع ضوابط كاشفة ومانعة detective and preventive controls لإدارة المخاطر المؤسسية فى مختلف مؤسسات الدولة.

ماذا لو تم فرض قانون الضريبة العقارية دون أدوات للرقابة على لجان التقييم وعمل المستشارين وغيرهم من أصحاب النفوذ؟! ستقوم الوزارة فى أحسن الأحوال بجباية ملايين الجنيهات من جيوب المواطنين "الملتزمين" بنص القانون، بينما يتسرّب من الموازنة عبر الفساد والهدر مليارات الجنيهات، التى كانت تكفى وحدها لسد جانب كبير من عجز الموازنة دون حاجة إلى تكبيل المواطن المطحون بالتزامات جبائية إضافية!.

هيئة الرقابة الإدارية اجتمع لها من المزايا ما لم يتح لأى من الجهات الرقابية الأخرى. فهى تملك الكفاءات المتميزة فى مختلف القطاعات، وتملك الأدوات الرقابية الحديثة، وتملك ثقة وتفويض مؤسسة الرئاسة فى إعمال شئونها الرقابية دون قيود بيروقراطية.. وفوق وقبل كل ذلك تملك ذمماً نقية وصفحات بيضاء صارت فى أيامنا هذه أعزّ من أن تعد من المسلّمات أو من نافلة القول.
***
وبخلاف ما يظنه البعض، لا أرى أن الهيئة تعمل فقط على الرقابة اللاحقة لكشف مواطن الفساد بعد أن تقع، فهى تحاول أيضاً -بمباركة رئاسية- أن تؤسس لمنظومة إدارة المخاطر المؤسسية على نحو عملى فى مختلف المؤسسات التى تقع تحت أعين رجالها. يأتى ذلك مثلاً عبر استعراض المشروعات الكبرى ودراسة جدواها بالتشاور مع ذوى الخبرة، قبل انطلاق تلك المشروعات والبحث عن مصادر تمويلها. كذلك يمكن أن تلعب الهيئة دوراً هاماً فى اختيار الكفاءات والعناصر المستحقة لتولّى المناصب الهامة، خاصة إذا امتلكت تلك الكفاءات الرؤية والدراية والخبرة اللازمة لإدارة مختلف الملفات، دون حاجة إلى تركّز الرقابة المستمرة فى هيئة واحدة، خاصة إذا قامت العناصر المختارة بوضع آليات محكمة لإدارة المخاطر كل فيما يخصه.
هذا الدور الإصلاحى الهام الذى تلعبه هيئة الرقابة الإدارية، يساعد مصر على إحصاء ثرواتها الحقيقية بكفاءة، قبل أن تبحث عن مصادر التمويل عبر البدائل الصعبة التى تتحمّلها الأجيال المتعاقبة. لا شك أن كثيراً من ميزانيات المؤسسات المملوكة للدولة يمكن أن تنقلب من العجز إلى الفائض لو أن محابس الفساد أغلقت فيها دون التأثير سلباً على الفرص التى تختنق بفعل تجنّب المخاطر عوضاً عن إدارتها.. أظن -وبعض الظن ليس إثماً- أن الموازنة العامة للدولة يمكن أن تشهد فائضاً لو أن نصف مصارف الفاقد والهدر المالى والإدارى توقفت لعام مالى واحد بفعل ضوابط رقابية تواجه الفساد دون أن تقتل فرص الإبداع والتميّز، وهذا يتحقق بشكل كبير عندما يشعر الموظف العام أن تلك الضوابط لا تتربّص به ولكنه تحميه من الخطأ.

بالتأكيد هناك جهات رقابية أخرى تستحق الإشادة، وبالتأكيد لا أفضّل أبداً تركّز المهام أياً كان نوعها فى جهة واحدة، حرصاً على كفاءة القيام بتلك المهام من ناحية وعلى الجهة التى تثقلها أعباء هذا التركّز من ناحية أخرى.. لكن الضرورة التى يفرضها استشراء الفساد الممنهج على نحو غير مسبوق، تقتضى التحايل عليها بكل أداة منتجة. فإذا كانت هيئة واحدة استطاعت أن تقتحم مغارات "على بابا" دون اهتزاز، فليس أقل من دعم تلك الجهة، وتأييد ومباركة جهودها، ومساعدتها على مأسسة تلك الجهود وتنظيمها لتعمل بشكل تلقائى فى أقرب وقت ممكن. بلغة كرة القدم التى تأخذ الجانب الأكبر من اهتمامنا هذه الأيام، لا يمكن أن تتخلّص من أو تقيّد حركة لاعب موهوب بفريقك فى أكثر أوقات المباراة حرجاً، لمجرّد حرصك على شكل اللعب الجماعى الذى لا يصمد أمام الخصم دقيقة واحدة!! والخصم فى هذه المباراة شرس وخطير، يتمثّل فى منظومة فساد عميقة وعريضة فى آن، تراهن على ترهّل وفشل معظم اللاعبين الآخرين بفريق الإصلاح.
***
أدعو المراكز البحثية المستقلة أن تجرى دراسة كمية دقيقة للوفر الذى حققته هيئة الرقابة الإدارية خلال العامين الماضيين فقط من خلال ضبط قضايا الفساد، على أن تشتمل تلك الدراسة على تقديرات كمية لمتغيرات كثيرة بخلاف حجم الرشاوى المضبوطة منها: تكلفة الفرصة البديلة أو الضائعة للفساد المؤسسي، وعائد السمعة وثقة المستثمر بعد كشف مواطن الفساد، والإصلاح الإداري الناتج عن تطوير المؤسسات، ورفع كفاءة الأداء المؤسسى..مع الحرص على التنبؤ القياسي بالتكاليف المستقبلية المتراكمة التى كانت الدولة لتتحملها لو بقيت تلك العناصر الفاسدة فى وضع نشط.

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved