منتدى دافوس والزائر الإثيوبى

صحافة عربية
صحافة عربية

آخر تحديث: الأربعاء 30 يناير 2019 - 12:10 ص بتوقيت القاهرة

نشرت صحيفة الشرق الأوسط اللندنية مقالا للكاتب «غسان شربل» وجاء فيه:
التخلف ليس قدرا. يمكن لشعب عانى طويلا أن يقلب مسار الأحداث إذا توافرت الإرادة والرؤية والقيادة. كان يمكن لإثيوبيا أن تبقى عالقة فى حروب الماضى. وأن تتلوى على نار النزاعات العرقية والحدودية وتزداد جوعا وفقرا. لكنها اختارت السير فى الطريق المعاكسة. اختارت الانتماء إلى العصر والصعود إلى القطار المتجه نحو المستقبل.
هذا ما شعر به من توافدوا إلى إحدى قاعات المنتدى الاقتصادى العالمى فى دافوس للاستماع إلى رئيس الوزراء الإثيوبى آبى أحمد. يعرف هذا الأربعينى قصة بلاده. لمس الآثار الكارثية لعقدين من الحرب مع إريتريا. وقبلها الأثمان الباهظة لحرب أوغادين مع الصومال. عاين الفشل المريع لتجربة «الرفيق» منغستو هايلى مريام وهو حمل السلاح شابا ضد ديكتاتورية الحزب الواحد. وعاين أيضا مخيمات الجوع وارتفاع وفيات الأطفال داخلها، وتوق الإثيوبيين إلى الفرار من بلادهم كأنها فخ. وراقب التخبطات الدموية بين المجموعات العرقية التى تزيد على الثمانين.
قرأ آبى أحمد تجارب الماضى واستخلص العبر. العدو الأول ليس إريتريا. إنه الفقر. وما جدوى أن تنتصر على دولة مجاورة وتهزم فى عقر دارك أمام الفقر والتخلف. أدرك أيضا أن لا معنى لانتصار مجموعة عرقية على أخرى ما دام انتصارها لا يحمل غير المقابر وسوء التغذية والبطالة. تعلم أن الحل هو مغادرة حروب الماضى إلى شراكات المستقبل وعبر التوزيع العادل للفرص وفتح أبواب الأمل.
أدرك آبى أحمد أن إثيوبيا تقف عند منعطف وعليها أن تتخذ قرارا كبيرا. الإقامة الكارثية فى مستنقعات الماضى والتحول عبئا إضافيا على القارة والعالم أو الانخراط فى معركة التنمية واتخاذ قرار حاسم بالتغيير ودفع الثمن المطلوب الذى لا يقل عن تغيير كامل فى القاموس. هكذا تقدم التعايش على التنابذ. والشراكة على الاستئثار. والانفتاح على حدود الهويات المسورة بالدم. هاجرت إثيوبيا إلى قاموس التنمية والتقدم والاستثمار مصابة بهاجس اللحاق بالثورات التكنولوجية المتلاحقة. شعاره بالغ الدلالات «إنزال الجدار وبناء الجسر». لا حروب مع الجوار بل شراكات. وفى الداخل دولة القانون والمؤسسات واحترام الحقوق وتداول السلطة وبيئة صالحة لاجتذاب المستثمرين.
عرف آبى أحمد أن الوقت اليوم أسرع منه فى أى يوم. وأن الدول لا تملك رفاهية المراوحة إلى الأبد. وأن الاستمرار قد يتحول وصفة للانهيار. لهذا أقدم فى عشرة أشهر على إطلاق سلسلة من الإصلاحات. لكن الأهم كان إعادة إطلاق الأمل لدى شعبه المثخن. إثيوبيون استقالوا من بلادهم وفروا بدأوا رحلة العودة. يكفى أن يحمل رئيس وزرائهم إلى «دافوس» أرقاما تؤكد أن بلاده هى الأسرع نموا فى أفريقيا. وأن أديس أبابا طوت صفحة الرقابة واعتقال المعارضين السياسيين والصحفيين. وأن الحرب على الفساد لن توفر أيا من أوكاره.
إفريقى آخر استوقف المشاركين حين بدا كمن يدق جرس الإنذار. للمرة الأولى يلتقى محمد حسن محمود (28 عاما) الثلج وذلك بمناسبة مشاركته فى «دافوس». قصته موجعة. ولد إبان الحرب الأهلية فى الصومال وهرب مع أمه وإخوته إلى كينيا بعد مقتل والده. تنقل بين المخيمات إلى أن صار مخيم كاكوما بلاده الجديدة. لم يستطع الالتحاق بالجامعة لافتقاره إلى الأوراق الثبوتية اللازمة. فى المخيم، تحول حلقة وصل مع ممثلى مفوضية اللاجئين والحكومة الكينية.
خاطب محمد الحاضرين قائلا: «هناك 60 مليون لاجئ ونازح فى العالم اليوم. أريد أن أكون آخر جيل من اللاجئين العالقين فى مخيمات لمدة 20 عاما». ودعا الدول إلى تغيير نظرتها فى هذا الملف، وقال: «حان الوقت لأن يعامَل اللاجئون كشركاء فى جهود التنمية، بدل اعتبارهم ثقلا على كاهل الحكومات. هناك أشخاص يتمتعون بكفاءات ومواهب، ويستطيعون المشاركة فى الإنتاج إذا منحوا فرصا».
لم يكن كلام آبى أحمد واللاجئ الصومالى أبرز ما شغل منتدى دافوس، لكننى تحدثت عنهما لأن عددا غير قليل من بلداننا لا يزال عالقا فى حروب الماضى وأوهامه. لا تزال «الحروب الصغيرة» تستنزف الميزانيات وتلتهم الاستقرار. ولا يزال الفساد وحشا تتضاعف شراسته كلما حاولت حكومة المساس بمواقعه فى حياة الدولة والمؤسسات. تحدثت أيضا عن شهادة اللاجئ الصومالى لأن بعض بلداننا تنجب النازحين ويتولى البعض الآخر استضافتهم فى المخيمات وسط مشاعر الخوف منهم أو عليهم.
انشغل «دافوس 2019» بظلال كثيرة وهموم كثيرة. منذ الافتتاح وحتى الختام كان القلق حاضرا من احتمال اندلاع حرب تجارية مفتوحة بين أمريكا والصين. حذر الحاضرون من أن ثمن هذه الحرب لن يقتصر على الاقتصادين الأول والثانى فى العالم، بل إن الخسائر ستصيب آخرين أيضا. كلمة نائب الرئيس الصينى كانت واضحة ومفادها أن الحرب التجارية لا تنتج رابحين وأن «أى مواجهة ستلحق ضررا بمصالح الجانبين». وسعى إلى تبديد المخاوف المتزايدة من مؤشرات التباطؤ فى الاقتصاد الصينى، مؤكدا أن اقتصاد الصين سيواصل تحقيق نمو مستدام.
ملفات أخرى شغلت المشاركين. الثورة الصناعية الرابعة وآفاقها والتحولات التى ستحدثها خصوصا فى مجال الذكاء الصناعى وتأثير ذلك فى فرص العمل ومعدلات البطالة. الملف الآخر كان الوضع البريطانى الغامض فيما يتعلق بالخروج من الاتحاد الأوروبى وكيفية هذا الخروج. وكان هناك التفات إلى المهمشين الذين نسيتهم العولمة واستمرار المعدلات العالية للفقر فى العالم، ما ينذر باضطرابات سياسية وأمنية وعمليات هجرة واسعة بدأت تتسبب فى بروز تيارات شعبوية وأزمات هوية حادة. وكان التغير المناخى حاضرا أكثر من ذى قبل، وسط تحذيرات من أن العالم لا يستطيع ممارسة سياسة الانتظار والتردد، خصوصا أن معظم الحكومات تقوم بأقل من المفترض لمواجهة هذا الاستحقاق الخطر.
تكشف خطابات المسئولين فى «دافوس» أولويات حكوماتهم وبلدانهم. وتكشف النقاشات استمرار القلق حول اتجاه العالم إلى الانشطار معسكرين؛ الأول يملك التكنولوجيا والمفاتيح، والثانى لا يزال عالقا فى شباك الماضى يرفض تناول الأدوية المرة التى لا بد منها للصعود إلى القطار.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved