اختبار الأمة فى امتحان القمة

فهمي هويدي
فهمي هويدي

آخر تحديث: الثلاثاء 30 مارس 2010 - 10:16 ص بتوقيت القاهرة

 عندما قال رئيس الوزراء التركى أمام القمة العربية إن مصير استانبول مرتبط بمصير القدس. وإن مصير تركيا مرتبط بمصير العالم العربى، فإنه بدا وكأنه يغرد خارج السرب، لأن أغلب سامعيه من القادة العرب يبدو وكأن لهم رأيا آخر فى المسألة.

ــ1ــ

فاجأنا السيد رجب طيب أردوغان وذكرنا بحقيقة استراتيجية نسيها كثيرون وتجاهلها الباقون، وهى أن نجاح إسرائيل فى تهويد القدس واقتلاع الفلسطينيين منها يعد تتويجا لانتصارها وتمكينا يطلق يدها فى المنطقة بأسرها، ليس فقط باعتبارها مشروعا توسعيا واستيطانيا، ولكن أيضا بحسبانها رأس حربة لمشروع الهيمنة الغربية، الراعى الحقيقى للدولة العبرية، وأمام ذلك التمكين فإن أحدا لن يكون بمنأى عن الخطر. ليس فى العالم العربى وحده، وإنما أيضا فى تركيا وإيران تحديدا، ذلك أن القدس من هذه الزاوية ليست مدينة فلسطينية عادية يتم تهويدها وابتلاعها، ولكنها رمز للعالم الإسلامى كله.

لقد وصف أردوغان ما تفعله إسرائيل فى القدس بأنه ضرب من الجنون. وتلك قراءة صحيحة من المنظور الاستراتيجى. لذلك فإن الاستمرار فى ممارسة ذلك الجنون، ومن ثم تحويل اللامعقول إلى معقول وترجمة العربدة الهوجاء إلى واقع يفرض نفسه بالقوة على الآخرين، يطرح معادلة جديدة تماما فى المنطقة، تقلب موازينها وتهدد مستقبلها وتفتح شهية «المجانين» للإقدام على مزيد من التغول والاستقواء.

هذا الذى أدركه رئيس الوزراء التركى، تتعامل معه العواصم العربية بقدر مدهش من التراخى واللامبالاة، يختزل رد الفعل فى بيانات للتنديد فقدت معناها وجدواها، وقرارات حذرة ليست فى مستوى التحدى أو الخطر، تراوحت بين إنشاء مفوضية للقدس، وإعانة أهلها بخمسمائة مليون دولار، والاستغاثة بمحكمة العدل الدولية، التى سبق لها أن أدانت إقامة السور، ولكن إسرائيل قابلت قرارها بازدراء واستهتار مشهودين، ونفذت مخططها كاملا، بمباركة ورعاية من جانب أركان الهيمنة الغربية، ممثلة فى الولايات المتحدة والرباعية الدولية.

ــ2ــ

حين انعقدت القمة فى «سرت» كان التحدى صارخا ومحرجا للقادة العرب. فالسيد نتنياهو أعلن صراحة فى واشنطون ــ فى عقر دار الراعى الأمريكى ــ أن القدس خارج المناقشة، وأن عملية تهويدها واقتلاع الفلسطينيين منها لن تتوقف. ولم يكذب رئيس بلدية المدينة خبرا، فلم يتوقف لحظة عن عملية الهدم والبناء سواء فى الأحياء العربية أو بجوار المسجد الأقصى وتحته. حتى أصبح انهياره مسألة وقت لا أكثر. وهو جهد توازى مع استمرار محاولات اقتحام المسجد الأقصى من جانب مستوطنين وتحت رعاية الشرطة. فى الوقت ذاته فإن حملة بناء الوحدات الاستيطانية تشهد اندفاعة قوية فى الضفة الغربية وغور الأردن والجولان.

بل ذهبت إسرائيل فى تحديها وتوحشها إلى حد الاستيلاء على المساجد القديمة، وتحويلها إلى آثار يهودية. كما حدث مع المسجد الإبراهيمى فى الخليل ومسجد بلال بن رباح فى بيت لحم.

لقد نجح نتنياهو فى إجهاض الوعود التى أطلقها الرئيس أوباما فى بداية العام بخصوص القضية الفلسطينية، التى كان وقف الاستيطان (مؤقتا بطبيعة الحال) مدخلا لإطلاق مفاوضات تمهد لإقامة حلم الدولة الفلسطينية، بل إنه تحدى نائب الرئيس الأمريكى، حين أعلن عن بناء 1600 وحدة استيطانية جديدة أثناء زيارة السيد بايدن لإسرائيل. وهو ما سبب للرجل حرجا قيل إنه أحدث أزمة فى العلاقات مع الولايات المتحدة، وأيا كان عمق هذه الأزمة، فإنها كانت من ذلك النوع الذى يحدث داخل أى بيت، ويظل مجرد سحابة صيف لا تلبث أن تنقشع، بجهود بقية أركان «الأسرة»، التى فى المقدمة منها أغلبية أعضاء مجلس الكونجرس والشيوخ، والمنظمات الصهيونية الموالية هناك، وإيباك على رأسها.

حكومة نتنياهو فعلت ذلك كله قبل انعقاد القمة العربية، ومن الواضح أنها لم تكن قلقة من أى رد فعل عربى، ومطمئنة إلى أن القمة لا تزال عاجزة عن أى فعل، بل عاجزة عن اتخاذ أى قرار سياسى جرىء (سحب المبادرة العربية مثلا أو قطع العلاقات واستخدام ورقة المصالح التجارية).

جدير بالذكر أن إسرائيل لم تكترث بالقمة وحولت انعقادها فى ليبيا إلى مادة للسخرية عبر عنها بعض المعلقين فى صحفها، إلا أن قلقها كان أكبر من ردود الأفعال الغربية على تزوير بعض جوازات سفر مواطنيها واستخدامها فى جريمة قتل محمود المبحوح قيادى حركة حماس فى دبى، ذلك أن قرار بريطانيا طرد أحد رجال الموساد فى السفارة الإسرائيلية بلندن بسبب اتهامه بالتواطؤ فى العملية آثار القلق فى تل أبيب من احتمال لجوء دول أخرى استخدمت جوازات سفرها إلى اتحاد إجراء مماثل. وحذرت الصحف الإسرائيلية من أن تحذو كل من أيرلندا واستراليا وفرنسا وألمانيا حذو بريطانيا، بعدما ثبت أن جوازات سفر مواطنيها استخدمت أيضا فى العملية.

المشهد من هذه الزاوية مسكون بمفارقة مخزية فإسرائيل لم تبد أى قلق من جانب العالم العربى وهى تفتك بالقدس وتطلق مشروعاتها الاستيطانية الوحشية فى الضفة، لكنها عبرت عن قلقها من ردود الأفعال الأوروبية على تزوير جوازات سفر مواطنيها واستخدامها فى جريمة قتل المبحوح.

ــ3ــ

قراءة إسرائيل للموقف العربى لم تكن خاطئة، فقد ذكرت التقارير الصحفية التى خرجت من اجتماعات سرت أن مصر والأردن اعترضتا على استخدام القمة كورقة ضغط على إسرائيل، وهو ما تم أثناء اجتماعات وزراء الخارجية أعضاء لجنة مبادرة السلام. إذ عارض وزيرا خارجية البلدين اتخاذ أى قرارات تتعلق بإلغاء أو تجميد المبادرة العربية، بحجة أنها تشكل أساسا «لتسويق» الموقف العربى ومما له دلالته الرمزية فى هذا السياق أن المندوب السورى اقترح أن يطلق على اجتماع القادة قمة «التحدى»، ولكن وزير الخارجية المصرى استثقل الكلمة باعتبار أنها ليست واردة فى قاموس «الاعتدال»، فاقترح تسميتها قمة القدس وهو عنوان أكثر حيادا أخذ به.

لم يكن مفاجئا الإبقاء على المبادرة العربية، التى كان العاهل السعودى قد أعلن فى قمة الكويت الاقتصادية التى عقدت أوائل العام الماضى أنها لن تبقى طويلا على الطاولة.. ورغم مضى ثمانى سنوات على إطلاقها فإنها مازالت فوق الطاولة، ولم يملك القادة العرب شجاعة سحبها أو حتى تجميدها ــ ولأنها لم تحقق شيئا حتى الآن سوى مساندة الادعاء بإبراء الذمة العربية، فإنه بات يحق لنا أن نعتبرها حيلة للتسويف وليست ورقة للتسويق. أما الطاولة فلم تعد كذلك، ولكنها تحولت إلى مشجب علق عليه القادة المبادرة ثم انصرفوا.

أى متابع لمؤشرات العلاقات العربية ــ الإسرائيلية لا يفاجأ بحدود السقف الذى حكم موقف القمة وأداءها. ذلك أنه قبل عقد المؤتمر بأيام قليلة «فى 24/3» نشرت صحيفة «الشروق» المصرية أن اللوبى الصهيونى فى الولايات المتحدة وجه التحية إلى مصر، لقيامها ببناء السور الفولاذى العازل بين سيناء وغزة. فى هذا الصدد تحدث روبرت ساتلوف مدير معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى ممتدحا موقف مصر الذى اعتبره «ناضجا وشجاعا»، «لأنها أوشكت على الانتهاء من آخر مراحل الحاجز «السور» الذى يضيق الخناق على حماس، الأمر الذى يشكل خطوة مهمة نحو أحداث تغيير داخل غزة». وقد استقبلت كلمته بتصفيق شديد من جانب الحضور، كما ذكر مراسل الجريدة فى واشنطن.

وقبل ذلك بأيام قليلة «فى 19/3» نشرت صحيفة «المصرى اليوم» أن وفدا عسكريا أمريكيا قام بزيارة منطقة الحدود المصرية مع القطاع لتفقد المرحلة الأخيرة من الجدار الفولاذى والاطمئنان إلى حسن سير العمل فى المشروع.

فى الوقت الذى أعلنت فيه الحكومة الإسرائيلية عن مخططات التوسع الاستيطانى واستمرار عمليات تهويد القدس، نشرت صحيفة الشرق الأوسط عدد 23/3» تقريرا عن تقدم خطوات التطبيع بين إسرائيل والمغرب (التى ترأس لجنة القدس!)، التى تمثلت فى عقد سلسلة من المؤتمرات التى شارك فيها الإسرائيليون، منها ندوة عن تاريخ هجرات اليهود من منطقة المغرب العربى عقدت بمدينة الصويرة، وقبلها عقد الملتقى الدولى الثانى لليهود المغاربة فى مراكش، وشاركت فيه 17 شخصية من إسرائيل، وفى الرباط عقدت ندوة عن المحرقة التى تعرض لها اليهود. وقبل هذا كله شهدت تسيبى ليفنى وزيرة خارجية إسرائيل السابقة أحد المنتديات السياسية التى عقدت فى مدينة طنجة.

الحاصل فى المغرب يتكرر بصورة أكثر حذرا فى منطقة الخليج، التى استقبلت أحد الوزراء الإسرائيليين بحجة مشاركته فى أحد المؤتمرات الدولية، وقام أحد الوزراء الخليجيين أكثر من مرة بزيارة رام الله بتأشيرة إسرائيلية، كما عقد بعض المسئولين الأمنيين اجتماعات تنسيقية اشترك فيها نظراء لهم من مصر والأردن، إضافة إلى الولايات المتحدة وإسرائيل. ولأول مرة هذا العام وجهت إدارة مهرجان الجنادرية فى المملكة السعودية دعوات المشاركة لعدد من دعاة التطبيع العلنى مع إسرائيل، الذين ترددوا عليها أكثر من مرة.

أما فى الضفة الغربية فإن الأجهزة الأمنية تحكم قمع الجماهير وتكبيلها لكى تتجنب احتمال انفجار الغضب الفلسطينى واندلاع شرارة انتفاضة ثالثة. وهو ما أعلنه حاتم عبدالقادر وزير شئون القدس فى حكومة سلام فياض السابقة، إذ نشرت له صحيفة الشرق الأوسط فى 17/3 حوارا قال فيه إن حكومة فياض الراهنة تمنع إطلاق يد الفلسطينيين فى الضفة الغربية للقيام بأى أعمال من شأنها أن تؤدى إلى اندلاع مواجهات مع قوات الاحتلال، وأضاف أن ما تقوم به الحكومة بمثابة إجراءات غير مسبوقة لم يعهدها الفلسطينيون أدت إلى كبت الشارع وعدم السماح له بالتعبير عن غضبه وسخطه إزاء الجرائم الإسرائيلية المتلاحقة.

ــ4ــ

فى كل مرة ينتقد الاستسلام العربى المهين أمام إسرائيل يتم إسكات الأصوات الناقدة بدعوى أن الخيار الآخر هو الحرب، ورغم أن إسرائيل لم تستبعد ذلك الخيار، ولا تزال تخوض تلك الحرب بين الحين والآخر، إلا أن الطموح فى العالم العربى أصبح أكثر تواضعا.

إذ لم يعد أحد يتطلع فى الوقت الراهن إلى تحرير فلسطين، وإنما أصبح الرجاء ألا يتم تضييع فلسطين بتوقيع عربى. وأزعم فى هذا الصدد أن عمليات المقاومة التى تمت إلى الآن لم يفكر قادتها فى أنها ستؤدى إلى تحقيق التحرير، بقدر ما أراد بها إشعار الإسرائيليين بأن الاحتلال له تكلفته، وإنهم لن يظلوا فى أمان وهم محتلون للأرض، وهذه التكلفة العالية هى التى دفعت إسرائيل إلى الانسحاب من غزة والخلاص من «همِّها». ورغم أن أحدا لا يستطيع أن يدعى بأن حكومة حماس هناك أنجزت شيئا على صعيد التحرير المنشود، إلا أن أحدا لا يشك فى أن وجودها عطل مسيرة بيع فلسطين والتفريط فى ثوابتها، وما محاولات تركيعها والإصرار على توقيعها على ورقة المصالحة إلا خطوة للخلاص منها وإزالة تلك العقبة التى وقفت فى طريق تصفية القضية. من ثم فتصوير الانقسام الحاصل بحسبانه صراعا على السلطة بين فتح وحماس هو تبسيط لا يخلو من تدليس، لأنه فى جوهره خلاف حول أسلوب التعامل مع الملف، وهل الممانعة والمقاومة هما الحل، أم أن الحل فى التسليم والدوران فى دوامة المفاوضات التى لم تثمر شيئا طوال التسعة عشر عاما الماضية؟.

قبل أيام قلية (فى ٢٥/٣) نشرت صحيفة الحياة اللندنية حوارا مع السيد رمضان شلح الابن العام لحركة الجهاد الإسلامى، سئل فيه عن بدائل العرب وخياراتهم فى التعامل مع إسرائيل، فكان رده أنه ليس مطلوبا من الدول العربية فى الوقت الراهن أن تستسلم أو تخوض حربا، وإنما غاية المراد منها أن تلتزم بحدود اللاحرب واللاسلم، وأن تترك الفلسطينيين بعد ذلك يتدبرون أمورهم مع الإسرائيليين. حتى هذا المطب صار عسيرا لأن القرار العربى لم يعد مستقلا، وما عاد بمقدور القادة العرب أن يتولوا لا لولاة الأمر فى واشنطن.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved