بيت المهاجر

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: الأحد 30 مارس 2014 - 6:50 ص بتوقيت القاهرة

لم أجرؤ على سؤاله عن حكاية السجادة الوحيدة التى حملها من بلاده، رغم أن ألوانها ونقوشها كانت تدل على أنه وصل إلى باريس من كردستان أو إيران ــ أو هكذا تخيلت... كانت السجادة هى الشىء الوحيد الموجود فى الغرفة التى استأجرها بالطابق الرابع منذ عدة أيام، قبل أن يتعرض المنزل للسرقة، وقبل رحيله المفاجئ.. لا أثاث، ولا صور أو لوحات على الجدران، فقط بدلتين رجالى كلاسيك لبس إحداهما وعلق الثانية بمسمار أعلى الحائط، وبالتالى لم يجد الحرامى ما يستطيع سرقته بعد أن كسر الباب. ظلت قصة السجادة تلاحقنى، وراقتنى فكرة أن تظل قطعة حية من الذاكرة تقاوم المصير الملتبس لهذا الجار المجهول بالنسبة لى. نعم كانت السجادة عنصر الديكور الأساسى الذى يشير إلى أن الرجل صاحب الشارب الكث قد تحول مؤخرا إلى غريب، لاجئ أو مهاجر، وهو يستأنس بها فى مواجهة بلاد الغربة.. ربما أيضا كانت هدية من شخص عزيز لديه، لذا افترشها وتمدد عليها.. السيناريوهات قد تتنوع، وتبقى السجادة هى أصل الحكاية، إذ يلجأ المهاجرون عادة إلى استدعاء تذكارات من حيث أتوا للتغلب على زحام النسيان والافتقاد.

<<<

استرجعت مشهد الرجل والسجادة داخل الغرفة الباريسية الخاوية أثناء متابعة الفيلم الفرنسى «الماضى» للمخرج الإيرانى أصغر فرهادى، الذى عرض مؤخرا بسينما زاوية بوسط القاهرة. من بيت مهاجر إلى آخر، كانت الكاميرا تنقلنا ببساطة تحت إضاءة متقنة، لأتوقف عند صورة فوتوغرافية من طهران أو قماش شرقى مطرز أو أكواب شاى صغيرة وإلى جانبها إبريق صاج تقليدى كالذى نجده فى المقاهى الشعبية. الأبطال جاء بعضهم من إيران، والبعض الآخر ينتمى لأصول مغاربية، لكن جمعهم ثقل الماضى وحضور الغياب، على صعيد الحياة الشخصية والمشاعر والانفعالات.. نلمح فى منازلهم قطع ديكور وأثاثا وإكسسوارات تكشف عن هويتهم وتؤكدها. هم فى حاجة ماسة لتلك الأشياء الصغيرة لتكون بمثابة علامات طريق، لأن الحنين هو زاد المهاجر.. وهذا الأخير بحاجة إلى قِطع ورموز تحمل رائحة ماضيه لتنقل جزءا من هويته السابقة إلى محل إقامته الجديد.. هو يسعى لتحويله إلى مسكن ينتمى إليه، مكان يلتقى فيه الماضى والحاضر، الفولكلور والحداثة، من كان وكيف أصبح.. لذا حرصت صديقة مقربة على وضع وسائد مصرية الطابع على الكنبة التى اشترتها لشقتها بإنجلترا، وأصر لاجئ سورى فى القاهرة على الاستقرار بمصر الجديدة لأنها شبيهة بدمشق، أما الخيار الثانى أمامه فكان مدينة السادس من أكتوبر حيث عدد لا بأس به من أبناء بلدته ومطاعمهم.

<<<

نحاول أن نخلق أماكن للتجمعات، كلٌ فى غربته، أماكن تمتلئ بصور الوطن، سواء كان هذا الوطن متخيلا أو حقيقا، أسطوريا أو انتقائيا، معنويا أو بعيدا.. نختصره فى عدة أشياء، فى ديكور ووسائد وإبريق شاى وجو عام يشبه أيام الفرح الدائم.. أحيانا نكتفى بما تبقى منه، وأحيانا يفيض الحنين، عندها يدخل الهندوسى المقيم فى جنوب كاليفورنيا إلى ركن العبادات الذى أسسه بشقته وزينه بالتماثيل والأيقونات التقليدية، ليتضرع إلى جانيشا، إله الفطنة وتذليل العقبات، وله رأس فيل.. أو يناجى سورى أصيص ورد كالموجود فى باحة بيته الدمشقى، وقد وضعه على شباك غرفة معيشته بالقاهرة.. أو يصب فلسطينى كاسة شاى بعشبة المرمية من الإبريق الصاج الصغير ذاته الذى قد نجده فى بيت مهاجر آخر فى أوروبا أو أمريكا أو الخليج.. الجميع سلك طريق الهجرات لأسباب سياسية أو طلبا للرزق.. وكلما تعددت مدن ومحطات الهجرة، كلما امتلأ المنزل بأشياء جاءت من هنا ومن هناك لتفجر الذكريات، وتروى قصة «أهل البيت» ومصائرهم القلقة، بما فيها من حذف وإضافة، تلك التى تتجلى فى عناصر الديكور والأشياء الصغيرة الموضوعة على الأرفف.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved