الجذور الاجتماعية والسياسية للتطرف السلفى فى لبنان

العالم يفكر
العالم يفكر

آخر تحديث: الجمعة 30 مارس 2018 - 9:50 م بتوقيت القاهرة

نشر مركز كارنيجى للشرق الأوسط مقالا للكاتب «رافاييل لوفيفر» يتناول فيه ظاهرة يشهدها لبنان أخيرا ألا وهى النمو المتزايد للتشدُد السلفى. وفيما تُورد غالبا انعكاسات وتداعيات الحرب السورية والتوترات الطائفية كعوامل مغذية لهذا التطور، إلا أن تفاقم العنف السلفى هو فى الواقع عارض من عوارض تظلُمات السنة اللبنانيين. والآن، يوفر الاستقرار السياسى النسبى الراهن فرصة لصانعى السياسات اللبنانيين من كل الأطياف كى يتوحدوا لسن الإصلاحات الهادفة إلى معالجة هذه الأسباب المحلية من جذورها.

يتحدث الكاتب عن أن لبنان كان هدفا رئيسا للتطرف منذ اندلاع النزاع السورى العام 2011. وقد فتك المتطرفون المُلتحقون بجماعات جهادية سلفية بأعداد كبيرة من المدنيين، بوسائل مختلفة، وخاضوا معارك دامية مع الجيش اللبنانى. وفى عام 2014، كانت أعداد هذه الجماعات وقوتها تتنامى إلى درجة أنها باتت تُسيطر بفاعلية على أجزاء من سهل البقاع، وصيدا، وطرابلس.. إلخ
ولمواجهة هذه التحديات، عمدت الحكومة اللبنانية إلى اعتقال مئات من المتشددين، وقادت حملة عسكرية على الخلايا الإرهابية. وكانت حصيلة كل ذلك انحسارا كبيرا فى أعمال العنف، بيد أن ذلك لم يفعل شيئا لمعالجة أسباب صعود التطرف السلفى من جذوره وإلى أن يحدث ذلك، سيستمر شبح التطرف الراديكالى يلوح فى الأفق.

السلفية هى حركة دينية سنية مُتزمتة ولم يكن لهذه المدرسة الفكرية الدينية سوى وجود هامشى فى لبنان، وعلى الرغم من أن السلفية دخلت إلى البلاد فى أربعينيات القرن الماضى، فإن نفوذها لم يصبح ملموسا إلا فى حقبة التسعينيات نتيجة تزايد المساعدات المالية التى تدفقت من هيئات سلفية غنية فى منطقة الخليج.

عُرضت تفسيرات عديدة حول صعود ظاهرة السلفية الجهادية فى لبنان فأعرب البعض عن اعتقادهم بأنه بسبب ميل السلفية إلى اعتبار المسلمين الشيعة زنادقة. علاوة على ذلك، تدهورت العلاقات السنية ــ الشيعية بعد اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريرى، الشخصية الرئيسة فى الطائفة السنية، وصعود نجم حزب الله، الحزب السياسى الشيعى المُتشدد الذى غالبا ما اتُهم بأنه نفذ عملية الاغتيال.

ويشير آخرون إلى أن صعود السلفية يرجع إلى الحرب بالواسطة التى شنتها السعودية التى كانت الممول الرئيس للمساجد السلفية والجمعيات الخيرية. على الرغم من أن كل هذه التفسيرات تتضمن جانبا من الصحة، إلا أنها تتجاهل الأسباب المحلية التى يتعين فهمها كى نكون قادرين على معالجة هذه الظاهرة على نحو فعال.

إن جوهر صعود نجم التطرف السلفى فى لبنان ينبع من حالة تمرد اجتماعى ــ سياسى تنبثق بدورها من مناطق مدينية ساخطة، فتنامى الجماعات السلفية يرتبط بالديناميكيات الاجتماعية أكثر من كونه حصيلة الجاذبية الأيديولوجية للتطرف. بالنسبة إلى هذه الجماعات، احتضان السلفية يكون غالبا وسيلة لأهداف أخرى، كالإفادة من سخاء التمويل الخليجى، وتقديم التبريرات عبر الخطاب الراديكالى والدينى لأعمال العنف التى تبدو وكأنها حصيلة تطرف سلفى، لكنها فى الواقع مُتسقة أكثر مع التقاليد المحلية الراسخة الخاصة بالاضطرابات الاجتماعية.

ويضيف الكاتب أن التطرف الحقيقى، يتمظهر فى سياق تجربتين اثنتين: الأولى، شن الجهاد فى سورية، والثانية قضاء بعض الوقت فى السجون اللبنانية. كلتا التجربتين تعكسان الحاجة الماسة كى تقوم الحكومة على نحو عاجل بتصحيح المقاربة الأمنية والقضائية، والالتزام فعلا بسياسة النأى بالنفس عن الأزمة السورية.

• القبضاى السلفى

على الرغم من أن الصدع السنى ــ الشيعى يُعتبر أهم الانقسامات فى المجتمع اللبنانى، فإن الفجوة الاجتماعية المتنامية بين الأغنياء والفقراء مُهمة بالقدر نفسه. فالحرمان يمس الطائفة السنية على وجه الخصوص. نجد أنه فى طرابلس وهى ثانى أكبر مدينة فى لبنان يشكل السنة الغالبية الكاسحة من سكانها، يُعتبر 57 فى المائة من قاطنيها فقراء. والأكثر لفتا للانتباه هى الفروقات المتنامية بين الأحياء المسورة للأغنياء حيث تتوافر الخدمات الأساسية، وبين المناطق المهمشة التى يعانى سكانها من تفاقم فقدان الأمن، وتدهور البنى التحتية، والأداء البائس للمدارس الرسمية، ومعدلات الفقر المرتفعة.

العامل الرئيس فى الجاذبية المُتنامية للسلفية فى المناطق المحرومة، يكمن فى قدرة هذه الحركة على استقطاب قادة الأحياء التى عانت منذ قرون طويلة من الإهمال من قبل الدولة، وسيطرت عليها فئة «القبضايات» الذين يوفرون للسكان الخدمات، وينظمون العلاقات الاجتماعية، ويدافعون عن هوية مناطقهم فى مقابل ولاء القاطنين لهم. وتتغلغل السلفية فى صفوف القواعد الشعبية من خلال مزج صورة قبضاى الحى بفكرة الناشط المُلتزم دينيا. ومع ذلك، لا تتطابق العقيدة الدينية التى يروج لها القبضايات السلفيون دوما مع السلفية.

ويذكر الكاتب رحلة أحد هؤلاء القبضايات السلفيين، شادى المولوى، والتى تظهر مدى خطورة التعامل معهم من زاوية الأمن وحده. وُلد المولوى وترعرع فى القبة أفقر أحياء طرابلس وأشدها اكتظاظا، وأصبح أحد القبضايات السلفيين. وبكونه قبضايا، استمال على جناح السرعة الأزلام، من خلال تقديم بعض الخدمات المحدودة للسكان التى جرى تمويلها من خلال تهريب الأسلحة واللجوء إلى العنف ضد الشرطة دفاعا عن المحليين العاملين فى الاقتصاد غير الرسمى. واليوم، لايزال العديد من السكان يعتبرونه «بطل القبة» الذى «حمى المنطقة».

ثمة تجربتان حولتا المولوى من قبضاى سلفى ينطلق من قضايا محلية، إلى شخص أكثر تطرفا أيديولوجيا وله روابط فعلية بالدولة الإسلامية وبهيئة تحرير الشام: الأولى برزت حين اعتقلته قوات الأمن فى العام 2012 وهذه التجربة كانت كافية لدفعه إلى التطرف.

عاد المولوى إلى طرابلس كمُتشدد صقلته الحرب وهو يحمل عقيدة أيديولوجية أكثر عمقا من ذى قبل، فشجع أنصاره على الانضمام إلى صفوف هيئة تحرير الشام، والإعداد لهجمات فى لبنان، وإطلاق «ثورة» للإطاحة بالنظام السياسى اللبنانى.

• من الحى إلى سوريا

تُوحى العديد من القصص المماثلة لقصة المولوى أن ظاهرة القبضاى السلفى تُهدد بأن تصبح أكثر تطرفا وأيديولوجية فى سياق الصراع السورى المتواصل. صحيح أن هناك تباينا حول العدد الحقيقى للسنة الذين غادروا لبنان لمقاتلة النظام السورى، إلا أن ما هو واضح أن هؤلاء شنوا الجهاد لأسباب متنوعة. انضم بعض السنة إلى المعارضة السورية انطلاقا من إحساسهم بـ«الواجب الإنسانى التى تستهدف الدفاع عن المتظاهرين السنة الذين يواجهون حملات وحشية يشنها عليهم النظام. فى حين كان الحافز لدى آخرين الانتقام من الجيش السورى الذى شارك فى مجزرة العام 1986 ضد السنة المحليين فى حى باب التبانة.

• السجون كمصانع للتطرف

سجن رومية أكبر مركز الاعتقال فى البلاد، بات يشتهر على أنه «مصنع التطرف»، حيث تُجند الجماعات الجهادية الأعضاء الجدد وتُعد الخطط للهجمات الإرهابية. لكن، بدءا من العام 2014 اتخذت المشكلة أبعادا جديدة أخطر وباتت تتمدد إلى كل السجون.

والظروف السيئة التى يعيش فى ظلها المعتقلين فى هذه السجون تدفعهم إلى أحضان التطرف.. كما أن السجناء السنة أكثر عرضة للتحول إلى التطرف، لأنهم يشكلون غالبية المُعتقلين ويميلون إلى الاعتقاد بأنهم يعانون من التمييز أكثر من غيرهم.

• إسباغ الجانب الأمنى على اللاجئين

أشارت تقارير إلى أن هناك فئة يُحتمل أن تنحو إلى التطرف وتتبنى الجهادية، هى جماعات اللاجئين السوريين. هناك بالطبع عدد محدود من السوريين الذين انضموا فى الآونة الأخيرة إلى جماعات جهادية، وشاركوا فى عمليات ضد الجيش اللبنانى، ونفذوا هجمات انتحارية ضد المدنيين. لكن الملحوظ هو مدى رفض جالية اللاجئين السوريين بوجه عام للرسالة المتطرفة، على الرغم من التحديات القاسية التى يواجهونها فى لبنان.

• حدود المد السلفى

لاشك أن الخطاب الثورى الذى تتبناه المجموعات السلفية الجهادية ورجال الدين، أثار اهتمام المجتمعات المحلية السنية اللبنانية والفلسطينية، ولكن هناك قيودا تحول دون التوسع الفعلى للفكر المتطرف. ومنها أن عدد المتعاطفين مع تنظيم الدولة الإسلامية قليلٌ نسبيا فى صفوف السلفيين فى لبنان، بل إن العديد منهم يعتبرون أن هذا التنظيم «مُجرم» و«إرهابى» لسفكه دماء الكثير من المدنيين..

والسبب الآخر هو أن سلفيى لبنان منقسمون بشكلٍ حاد بين من يتفادون الدخول فى المعمعة السياسية ليركزوا على الأنشطة الدعوية، وبين من يؤمنون بأهمية الانخراط السياسى..

بالفعل قد تنجذب بعض زوايا المجتمع السنى فى لبنان إلى هذا الخطاب السياسى العنيف الذى يتبناه بعض رجال الدين السلفيين، ولكن لا يمثل ذلك بأى شكل من الأشكال ترجمة لاحتضان حقيقى للأيديولوجيا السلفية.

ويختتم الكاتب بالقول أن انتشار التطرف السلفى هو أبعد ما يكون عن كونه مجرد تجسيد لرد الفعل السنى إزاء هيمنة حزب الله ــ ولكنه أيضا رد على فشل النخبة السنية فى معالجة مظالم أتباعها. ومن ثم قبل تمكين السياسيين ورجال الدين السنة الوسطيين، لابد من إصلاح أساليبهم. ينبغى على السياسيين السنة من أجل استعادة ثقة ناخبيهم، ممارسة أعمالهم بشفافية أكبر، واحتضان المجتمع المدنى، وتشجيع صعود جيل جديد من الناشطين الشباب، وبذل المزيد من الجهد والمال لمساعدة الفئات المحرومة فى المجتمع. وتوفر الحالة الراهنة من الاستقرار السياسى النسبى فرصة فريدة من نوعها تسمح بوقوف صناع السياسات من جميع الأطراف صفا واحدا للعمل على إقرار الإصلاحات الاجتماعية والسياسية التى يحتاج إليها لبنان بشدة.

النص الأصلى

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved