أخطر من كورونا

محمد عصمت
محمد عصمت

آخر تحديث: الإثنين 30 مارس 2020 - 9:10 م بتوقيت القاهرة

لكمات موجعة تحت الحزام وجهها فيروس كورونا لكل مفاهيم وسياسات العولمة التى تتبناها الدول الغربية الكبرى، وتفرضها بشكل قسرى على كل دول العالم بشكل واضح خلال العقدين الأخيرين، لدرجة أن الكثيرين من المفكرين والسياسيين فى الغرب أصبحوا يشككون فى قدرة العولمة بشكلها الرائج الآن على الاستمرار فى زمن ما بعد الكورونا.
فالعولمة كما هو معروف بدأت من أرضية اقتصادية تستهدف ربط اقتصاديات كل دول العالم بشبكة انتاج يكمل بعضها بعضا، تنفتح فيها الأبواب أمام الجميع وتلغى الحواجز التى تفصل دول العالم عن بعضها وتسمح بحرية التنقل والتجارة، ثم تواصلت إلى ضرورة دمج كل سكان العالم فى مجتمع واحد تتشابه فيه الأذواق وأنماط الاستهلاك إلى القيم الأخلاقية والاجتماعية والثقافية، بحيث يصبح العالم كله مجرد قرية واحدة صغيرة.
إلا أن فيروس كورونا جاء ليقلب كل هذه الأفكار والسياسات رأسا على عقب، وليفرض على كل دول العالم أن تغلق حدودها على نفسها لمنع انتشار العدوى، لتضرب بذلك مفاهيم العولمة فى أعز ما تملك وهو حرية السفر والتنقل، فالعالم لم يعد قرية صغيرة كما كان يبدو من قبل، ولكنه أصبح جزرا منعزلة، كما أن التصريحات العدائية بين قادة الدول الكبرى حول احتكار اللقاحات المضادة لفيروس الكورونا فى حالة اكتشافها لشعوبهم، وتخزين الامدادات الطبية ومنعها حتى عن الدول الحليفة، أسقط كل قيمة أخلاقية للعولمة كان يدعى مناصروها والمروجون لها.
أما الأخطر من كل ذلك، فإن كورونا كشفت ــ كما يقول تقرير لمجلة «فورين أفيرز» الأمريكية ــ مدى ضعف وهشاشة الأساس الاقتصادى التى قامت عليه سياسات العولمة، فالترابط العميق بين الشركات العالمية فى الدول المختلفة كان له تأثير سلبى خطير على الانتاج، فكل مصانع السيارات الكبرى فى أوروبا الغربية أصبحوا يحبسون انفاسهم خوفا من انهيار صناعتهم بسبب إغلاق احد المصانع الإيطالية التى تنتج لهم الشرائح الالكترونية المستخدمة فى هذه السيارات، كما أن تكالب الدول الكبرى على شراء مواد كيميائية تنتج فى هولندا وسويسرا تستخدم فى اختبارات المصابين بالمرض، أدى إلى عدم قدرة هذين المصنعين على انتاج ما يكفى لتلبية هذه الطلبات، وهو ما وجه العديد من الانتقادات للعولمة التى كانت تستهدف تخصص مناطق معينة بالعالم لانتاج مواد محددة، حيث أصبح هذا النظام الانتاجى العالمى غير ناجح فى أوقات الأزمات والأوبئة.
وعلى مستوى العلاقات الدولية، فشلت العولمة فى انقاذ أرواح الآلاف من المصابين بالفيروس، فغالبية الدول الأوروبية امتنعت عن مساعدة ايطاليا المنكوبة بالوباء، وقررت توجيه مواردها الطبية لشعوبها، بعدما أغلقت حدودها معها منعا لانتشار المرض فى ضربة موجعة لفكرة الاتحاد الاوروبى بكل مؤسساته وتحالفاته العسكرية والاقتصادية، كما أن أمريكا نفسها زعيمة الدول المنادية بالعولمة والراعية لها، أغلقت مطاراتها أمام الجميع ومنعت حتى شعوب حلفائها الاوروبيين من السفر إلى أراضيها، فى حين بدأت الصين وروسيا فى لعب دور مهم على الساحة الدولية بتقديم مساعدات كبيرة لإيطاليا وصربيا.
نحن الآن على أعتاب عالم جديد لم يبح بكل أسراره بعد، البعض يتوقع حروبا عسكرية وليست تجارية فقط تشنها أمريكا على الصين لمنعها من احتلال مكانها كأقوى دولة فى الأرض، آخرون يرون أن أزمة اقتصادية عالمية تنتظرنا بفارغ الصبر ربما لم يشهد البشر مثلها من قبل سوف تدفع ثمنها الدول الفقيرة فى الأساس، وأن الأفكار القومية سوف تستعيد أرضها التى فقدتها أمام العولمة، وأن مناطق النفوذ للدول الكبرى سوف تشهد تغييرات خطيرة، وأن تحالفات جديدة سوف تنشأ بين دول تريد أن تهيمن على النظام العالمى المنتظر.
كل هذه التغييرات الجوهرية المتوقعة سيكون لها تأثيرات هائلة على عالمنا العربى، ومع ذلك فإن معظم أنظمتنا يبدو أنها غير مبالية بها، ولكنها إن لم تستعد لها بعقلية سياسية جديدة فسوف تواجه أوضاعا أكثر خطورة بمراحل من كورونا نفسها!

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved