شرعية الرئيس: آخر فصول العرض الارتجالى

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الإثنين 30 أبريل 2012 - 1:40 م بتوقيت القاهرة

 تستبد الشكوك العميقة بالمسرح السياسى كله. حركة الممثلين والكومبارس تتصادم فوقه، الارتجال يحكمه والصخب فى جنباته. لا نص دستورى يضبط التفاعلات ولا قواعد مقنعة فى نقل السلطة.

 

الارتجال الانتقالى يفضى بالضرورة إلى أزمة شرعية مستحكمة تنتظر الرئيس الجديد.

 

أزمة الشرعية تلخص محنته.. ظلالها تمتد إلى المستقبل وصدامات القوى فيه قد يفلت عيارها وتعود مصر إلى المربع رقم صفر.

 

القضية تتخطى شخص الرئيس إلى طبيعة الدولة والقواعد التى تضبط مؤسساتها الدستورية والعلاقات بينها.

 

السؤال الجوهرى هنا: هل نحن ذاهبون بعد معاناة انتقالية أخرى إلى دولة مؤسسات حديثة تحكمها قواعد جديدة تضمن سلامة القرار السياسى أم إلى أزمات تتفاقم وانهيارات جديدة فى بنية الدولة والمجتمع؟

 

فى اليوم التالى لانتخاب الرئيس تبدأ أزمته قبل أن يجلس على مقعده فى قصر العروبة.. وهى أزمة تتناقض اعتباراتها، فشرعيته يستمدها من صناديق الاقتراع العام، وهى شرعية لا مثيل لها منذ تأسيس الدولة الحديثة قبل قرنين. هذه الشرعية تخوله بتفويض شعبى إدارة مرحلة انتقالية جديدة لمدة أربع سنوات تصحح أخطاء وخطايا المرحلة التى سبقتها.. ولكنها شرعية منقوصة، صلاحياته مرتهنة لدستور يطبخ فى عجالة ليستفتى عليه عشية الانتخابات الرئاسية. تفاهمات الربع ساعة الأخيرة تنذر بدستور مشوه ابوابه الاربعة الاولى منقولة بنصوصها من دستور (١٩٧١)، وأبوابه التالية أقرب الى تلفيقات بين النظامين الرئاسى والبرلمانى. جماعة الاخوان المسلمين سوف تميل بطبيعة مصالحها الى توسيع سلطة البرلمان وصلاحيات رئيس الحكومة بعد أن تصاعدت احتمالات خسارتها السباق الرئاسى.. وجماعات سياسية اخرى داخل «تأسيسية الدستور» سوف تحاول بدورها توسيع صلاحيات الرئيس لأهداف لها علاقة بالصراع السياسى المباشر مع الاخوان لا صياغة دستور قابل للحياة لعقود طويلة قادمة. العشوائية تسحب من رصيد الشرعية.

 

الشرعية نفسها أشبه بخيوط الصلب، قد لا تراها ولكنك تستشعر قوتها. وإن لم يستشعر الرئيس الجديد قوة شرعيته ويعمل بمقتضاها فإنه يكون قد خسر معركته قبل أن تبدأ.

 

خطة «الانتخابات أولا» بلا دستور يسبقها مشروع صدام بين مؤسسات الدولة ومشروع صراع على طبيعة الدولة نفسها.. ودستور مبتسر فى الوقت بدل الضائع لا يؤسس لشرعية جديدة تستحق أن تنسب لثورة يناير.. سوف ندفع الثمن فادحا ومجددا للتخبط الدستورى فى اليوم التالى لانتخاب الرئيس، قد تدفعه الطبيعة المركزية للدولة المصرية، التى اعتادت أن تكون الكلمة الحاسمة للرجل الأول فيها، أن يتصرف على نحو يوحى بأن نظام الحكم ما يزال رئاسيا. أجهزة الدولة مستعدة أن تمضى معه فى تأكيد سلطاته بمواريث التاريخ دون سند من دستور واضح وقاطع، وقطاعات واسعة فى الرأى العام تميل بمخزون خبراتها إلى صورة الرجل القوى على رأس الدولة.. هذه كلها اعتبارات تزكى الصدام مع البرلمان للإمساك بالسلطة مستخدما الشرعية وتقاليدها المصرية.. والبرلمان قد تدفعه بالمقابل حسابات الأكثرية فيه إلى التوجس من الرئيس المنتخب داخلا فى اختبارات قوة مبكرة لتحديد الأحجام والصلاحيات قبل الكلام عن الصفقات وشروطها.

 

ما يحدث الآن من مشاهد سياسية مرتبكة ومربكة تصاحب وقائع السباق إلى قصر العروبة تنبئ بأن الأزمة سوف تمتد فى اليوم التالى لنقل السلطة بصور جديدة ووجوه مختلفة.

 

المقدمات ظاهرة فى مساومات «تأسيسية الدستور»، ودعوات لمليونيات فى ميدان التحرير ينسحب منها أصحابها فى اللحظات الأخيرة، عين على الميدان والغضب فيه وعين أخرى على العسكرى وجوائز السلطة عنده.

 

رسائل متصادمة فى أوقات انتقال سلطة ككرات لهب تتقاذف بين كوبرى القبة وشارع مجلس الشعب والمقطم وميدان التحرير حيث مقرات المجلس الأعلى للقوات المسلحة وحكومة الجنزورى ومكتب الإرشاد والمحل المختار للثورة والغضب.. ومشاحنات لفظية بين رئيس مجلس الشعب الدكتور «سعد الكتاتنى» ورئيس مجلس الوزراء الدكتور «كمال الجنزورى» أقرب إلى قنابل دخان لتحقيق أهداف أخرى وقطع وقت المشاهدين فى آخر فصول العرض الارتجالى!

 

لم يعد هناك معنى لمعركة بين حكومة فشلت فى مهامها وبرلمان صادفه الفشل ذاته فى إقناع الرأى العام بجدارته وأهليته. فالحكومة عمرها الافتراضى بات يحسب بالأسابيع والأيام، والبرلمان مصيره معلق على حكم الدستورية.

 

بحسب قيادة إخوانية فإن الجماعة تخشى إن سحبت الثقة من الحكومة أن يُقدم العسكرى على حل البرلمان قبل انتخاب رئيس جديد، شبه المؤكد أنه لن يكون مرشح الجماعة، فتخسر كل شىء فى مواقيت متقاربة. الحذر إذن يحكم الجماعة باقتراب استحقاقى الرئاسة والدستور. تراهن على الاستحقاق الرئاسى بمرشح فرصه تراجعت بعد أن حسم السلفيون تأييدهم لصالح مرشح فصلته الجماعة. اللافت هنا أن الجماعات السلفية الأكثر تشددا فى خيار الدولة الدينية انحازت لمرشح على يسار جماعة الاخوان المسلمين الوسطية. وهذه محنة إضافية للجماعة استدعت تعقيداتها تدخل «موسى أبومرزوق» نائب رئيس المكتب السياسى لحركة حماس و«رمضان شلح» أمين عام تنظيم الجهاد الفلسطينى فى الملف لترميم العلاقة بين الجماعة وعضو مكتب إرشادها السابق الدكتور «عبدالمنعم أبوالفتوح»، فالسباق على المقعد الرئاسى يتجاوز المرشحين الإسلاميين إلى صورة التيار الإسلامى نفسه الذى أصابه ضرر فادح فى شعبيته وسمعته. لكن تلك التدخلات لترطيب الأجواء لم توفق إلى نتائج يعتد بها.

 

القضية تمتد ظلالها إلى سلامة البناء التنظيمى للجماعة وقد تتمدد إلى صراعات وانشقاقات وأحزاب جديدة تخرج من رحم التفاعلات.

 

الجماعة تدرك أنها فى أزمة، ولكنها تعتقد أن المسئولية تشاركها فيها تيارات وقوى أخرى: ارتكبنا أخطاء تحاسبوننا عليها ولكنكم أيضا ارتكبتم أخطاء مماثلة» على ما يقول عضو فى مكتب إرشاد الجماعة. وهذه لغة عتاب سياسى تتطلب الحديث بوضوح عن الأخطاء التى تعترف بها الجماعة، وكيف تصححها، والأخطاء التى تنسبها لقوى سياسية أخرى، وكيف يمكن التوصل إلى أفق سياسى جديد يضمن الانتقال إلى أوضاع مختلفة.

 

الاختبار الأول لرئيس الجمهورية المنتخب: العلاقة مع البرلمان. طبيعة المرحلة تقتضى التوافق على الأولويات والمهام، فالمشاكل الظاهرة والغاطسة فوق طاقة أى تيار بمفرده أو مؤسسة لوحدها.. ويدخل فيه ملف ملغم آخر يتعلق بمدى ولاء القوات المسلحة لقائدها الأعلى الجديد. السؤال المباشر هنا: لمن ولاء الحرس الجمهورى؟

 

من تقاليد الرئاسات المصرية المتعاقبة أن يتبع الحرس الجمهورى الرئيس مباشرة، أن يضمن سلامته وحمايته وهيبته، وقد أنشئ على عهد الزعيم الراحل «جمال عبدالناصر» فى الخمسينيات بنصيحة من صديقه الرئيس اليوجوسلافى «جوزيب بروز تيتو». سأله «تيتو» فى بريونى: «هل تثق فى هذا الرجل؟» ناظرا باتجاه المشير «عبدالحكيم عامر» الذى كان فى مرمى البصر.. أجابه «ناصر» على الفور: «إنه صديقى».. قال «تيتو»: «أمنك يا سيادة الرئيس لا تضمنه اعتبارات الثقة وحدها». إنها إذن مسائل أمن وهيبة وشرعية.. والشرعية كلمتها نافذة فى الصراعات على السلطة فى بلد مثل مصر. فى مايو (١٩٧١) أبدى الرئيس الأسبق «أنور السادات» للأستاذ «محمد حسنين هيكل» مخاوفه من خسارة الصراع على السلطة: «قيادات الجيش والمخابرات والإعلام والتنظيم السياسى كلها ضدى وليس معى أحد». قال «هيكل»: «الشرعية معك».

 

الكلام عن رئيس دمية يتلاعب به العسكرى أو البرلمان والجماعة مسألة يصعب تقبلها كحقيقة مُسلم بها.

 

هذه هى المرة الأولى التى يتقلد فيها مدنى منتخب مقعد الرجل الأول فى البلاد. رئيس قوى أم خيال ؟. هذا سؤال يطارد المنصب قبل أن يعلن عن اسم صاحبه أو يكشف عن حدود صلاحياته الدستورية.  

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved