ليل دون ضجيـج

خولة مطر
خولة مطر

آخر تحديث: الثلاثاء 1 مايو 2012 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة


كل هذا الضجيج الليلى، ففى المساء عندما تبحث هذه الأمة عن بعض من السكون ينتشر الصراخ وكأنه والليل أصبحا متلازمين وكأنه لا ليل فى بلاد العرب دون كثير منه.. أى الضجيج..


كيف يتسع المساء لكل هذا الكم من الوجوه.. رجال فى معظمهم وقليل من النساء فقط.. كانت وجوههن حاضرة لا تختبئ ولكنهن الآن بعيدات عن عالم الضجيج الليلى إلا فيما ندر.. خاصة بعد ربيعنا الذى يعمل كثيرون على اختطافه وهو لا يزال طفلا يحبو.

 

●●●

 


وأنت تبحث عن آخر نهارك بصبر وكثير من الشوق، تتساقط عليك حجارة الكلام، تنقر على مفتاح ذلك الجهاز ربما بحكم العادة أو ربما خوف من أن تفقد تفصيلا حدث اليوم ولم تسمع به.. وما أن تنتقل بين المحطات حتى تكثر الوجوه.. كثرة هى لخبراء وسياسيين وإخصائيين ومحليين فى فن التحليل.. فقهاء فى فن الحضور على شاشات تليفزيوناتنا.. ويبدأ الصراخ الذى لا يتوقف حتى ساعات الصباح الأولى فى بلاد هى الأحوج بساعات الصباح الأولى للبناء بعد سنين الهدم التى طالت..


تطفو الوجوه بمسميات مختلفة ويجمع بينها احتراف المهنة الجديدة.. مهنة أن تكون ضيفا على برنامج «توك شو».. هى الموضة إذن أو مفتاح هذا الزمن المزدحم بالأحداث والمتغيرات.. تبتسم الكاميرا لهذا الوجه وذاك ربما بشىء من السخرية كم مرة كنت هنا وهناك.. هم كالغربان وليس الفراشات ينقلون «زعيقهم» من استديو إلى آخر.. يبحثون عن جنازة يحولونها بفعل فاعل إلى خبر بحاجة إلى تحليل مطول من خبير مفوه!


تبدأ فى التجوال الليلى.. أنت أيضا تبحث عن الجديد وهم لا يزالون يعيدون تعليب القديم فى جمل ملونة تحمل وجبة جديدة ــ قديمة.. إنه الحصار مع اختلاف تلاوينه.. هى جلسات التخمة تحت ضوء القمر.. تخمة من التحليل والتأويل و«الفذلكة» ويبقى الضجيج يحاصر ليل بلادنا الراقدة على قيد من نار، الباحثة عن الضوء الاول فى نفق شديد العتمة.. هل ينير ضجيجهم عتمة ليلنا؟


كالمنجمين أتوا.. يغيرون «الكرفتات» من محطة الى اخرى ومن استديو إلى آخر.. تنقلهم العربات المسرعة من هنا إلى هناك، يحملون الورق والقلم وربما «الآى باد» فهذه «عدة» الشغل والوظيفة «ضيف على برنامج توك شو»! تنتقل من مكان لتجدهم ينتقلون معك.. تبعد وتتعب منهم فتبحث عن وجه جديد بخطاب ربما بلون هذا الوطن أو بلون طينه ورمله وتلك الوجوه المتعبة.. باسمها هى يتحدثون كثيرا.. باسم تلك الوجوه ينشرون ضجيجهم.. بعضهم يحول البرنامج إلى محطة للدعاية لحزبه أو تنظيمه كما الماركات التجارية المسجلة أو غير المسجلة!

 

●●●

 


يتنقلون فينثرون الرمل فى وجه الجالس فى غرفته هناك، الباحث عن الجديد أو ربما عن من يرشده إلى الطريق، ذاك المتخبط الخائف، الحائر، الشارد، القلق، النائم على الجمر.. هو فريستهم الليلية.. ذاك الذى خرج فى فجر ذاك العام ثم ما لبث وإن كرر الحضور.. أقتسم الرغيف وحبة الملح وجلس تحت الشمس الحارقة ولسعته برودة ليلة فبرايرية بجدارة.. هم اصبحوا اليوم الناطقين باسمه، المتحدثين عن وجعه، العارفين بماضيه، المتنبئين بمستقبله.. هم عرافو الزمن الحديث.. فأولئك يبيعون الصحة والعافية والأمل معلبة فى حبة البركة وهؤلاء أيضا يحترفون الكلام المنمق وتعليب المستقبل فى عبارات رنانة وكلها باسم ذاك المواطن المجهد والمتعب، الواقف فى محطات المترو أو فى زحمة الاتوبيسات المهترئة، العامل لساعات اليوم وبعض من الليل فقط ليوفر كسرة الخبز.. باسمه واسمها يتنقلون من شاشة إلى أخرى.. وباسمهم أيضا يعيدون إنتاج أنفسهم وخطابهم ويكثرون الصراخ والضجيج..


تتعب فتوصد النافذة وتغلق الباب بأحكام فأنت وهذه الأمة تبحثون عن قليل من الراحة وليل دون ضجيج.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved