الحرص واجب وأنت تغرد

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الأربعاء 30 أبريل 2014 - 6:10 ص بتوقيت القاهرة

إذا كنت راغبا فى أن ترشح نفسك ذات يوم رئيسا للجمهورية مدفوعا بالأمل المتجدد فى ظل دستور جديد ونخبة حاكمة متجددة، أو راغبا فى أن تصبح صحفيا مرموقا أو أستاذا جامعيا وعالما يشار إليه بالبنان، أو رئيسا لواحدة من الشركات العالمية متعدية الجنسية، إذا كنت راغبا فى واحدة من هذه الوظائف الرفيعة فلتكن حريصا وحذرا فى تغريداتك ودردشاتك ورسائلك النصية التى ترسلها عبر الانترنت.

•••

لاحظت إحدى جامعات الولايات المتحدة فى الآونة الأخيرة أن بعض خريجيها أصبحوا يجدون صعوبة فى العثور على وظائف. بين هؤلاء عدد لا بأس به من المتفوقين والحاصلين على أعلى الدرجات والبارزين فى الأنشطة الاجتماعية.

أجرت الجامعة تحقيقا جاءت نتيجته مفاجأة للجميع، إذ اتضح أن معظم جهات التوظيف، سياسية كانت أم تعليمية أم تجارية أم مصرفية، درست شخصية المتقدم للوظيفة وتاريخه ليس فقط من خلال سيرته الذاتية أو الحياتية التى يتقدم بها عادة كل الراغبين فى شغل وظيفة، ولكن أيضا من خلال ملفه الإلكترونى. هذا الملف الذى يمكن تجميعه فى ساعة واحدة ويحتوى على العديد من فيديوهاته ونصوص تغريداته وعينات من رسائله الإلكترونية الشخصية وباقة من دردشاته التى تعود أن يمارسها عبر مختلف تطبيقات الإنترنت.

•••

بالاطلاع على هذه الملفات يستطيع خبراء أقسام المستخدمين ومن يطلق عليهم حاليا خبراء العلاقات البشرية وغيرهم من المسئولين عن التعيينات رسم صورة للوجه الآخر لطالب الوظيفة، صورة مختلفة عن الصورة التى رسمها لنفسه فى سيرته الذاتية. يستطيعون من دراسة صورة الوجه «الافتراضى» ولعلها الصورة الأصدق التعرف على هواياته «السرية»، وطموحاته الحقيقية التى لا يعلن عنها لغير المقربين جدا إلكترونيا. يمكنهم كذلك التعرف على تفاصيل علاقاته الاجتماعية وميوله العاطفية والجنسية، والموضوعات أو القضايا المجتمعية التى تثير اهتمامه أو لا تثيرها على الإطلاق. يتعرفون على نوع انفعاله وسرعته أو بطئه فى رد الفعل، ويحكمون على مدى اتزانه وحسن تقديره للأمور وقدرته على تكوين صداقات وتنميتها. وفى النهاية يقارنون بين ما سجله على نفسه فى صحيفة حياته وبين ما يسجله عن نفسه كل يوم وساعة ودقيقة عبر الإنترنت.

•••

تنبهت الجامعة إلى خطورة هذا التطور فى حقول التعيين على مستقبل الطلاب والخريجين الشباب عموما، وتنبهت فى الوقت نفسه إلى ضرورة التدخل لتدارك الأمر قبل أن يتفاقم، تقديرا منها لحقيقة لا تدركها أو تهتم بها جامعاتنا وهى أن الجامعة التى تخرج خريجين لا يجدون عملا، جامعة معرضة للإفلاس والإغلاق. تدخلت فقررت تخصيص فصول يدرس فيها الطلبة كيفية التعامل بنضج ووعى مع التكنولوجيا الرقمية عموما ووسائل الاتصال الاجتماعى خصوصا. وينكب حاليا المتخصصون على تأليف كتاب للطلبة عنوانه «كيف تدبر أمر حياتك الافتراضية، وعلاقتك مع الإنترنت».

•••

أقرأ أحيانا ما يكتبه عبر الإنترنت بعض المعارف من الشباب ومتوسطى العمر، وكبارهم أيضا. أكاد أجزم أن غالبية هؤلاء لو عادوا وقرأوا ما كتبوا لقاموا بحذف أغلبه، أو غلبهم الندم على ما فعلوا. كثيرون لا يقدرون، بحكم صغر السن أو لذة المغامرة أو لحظات الاندفاع أو شهوة الظهور وحب الشهرة وتضخم الأنا الشبابية، أن هذه الرسائل محفوظة فى الفضاء الإلكترونى، ومتاحة لكل من يشاء الإطلاع عليها واستخدامها لغرض أو آخر.

أتصور أن زمنا سيأتى لن تتخذ فيه فتاة قرارا بالموافقة على الاقتران برجل قبل أن تطلع على ملفه الالكترونى. لأى نوع من الرجال ينتمى هذا المتقدم؟. هل سيكون من الانتهازيين، متقلبا فى عواطفه، مقدرا للمسئولية، عنيفا، سيئ الأخلاق، تافها، أم هادئ الطبع، رقيق المعشر. لن تلجأ، كما فعلت أمها وأهلها، حين راحوا «يسألون» عن المتقدمين لأمها. فتاة هذا الزمن لديها وثائق إلكترونية لا تكذب ولا تبالغ ولا مصلحة لديها فى أن تتزوج أو لا تتزوج. الشاب الراغب فى الزواج سوف يفعل الشيء نفسه قبل أن يتقدم للفتاة، سيكون حريصا على معرفة أى نوع من الأصدقاء والصديقات فضلته على غيره من الأنواع وأى نوع من الأسرار أخفتها عن عائلتها ولكن أسرت بها لصفحات تغريداتها ودردشاتها.

لا يغيب عن الذهن أن شركات قامت خصيصا للمتاجرة فى محتويات هذه الملفات، بعض هذه الملفات يحتوى على مواد ثمينة صالحة للروايات والمسرحيات، وأخرى مفيدة لشركات التسويق، وكثير منها، ثبت بحق، أنه يعكس خفة الظل ورقى الذوق وسعة الخيال. وبعضها، كما حدث بالفعل وللأسف الشديد، أسرعت لتستخدمه جهات شريرة متخصصة فى مهمة اغتيال الشخصيات وتشويه سمعة القادة وإثارة الفوضى وحرق تجارب الشباب ونزع الثقة منهم. نجحت هذه الجهات والقوى الشريرة فى اختلاق وظيفة للإنترنت لم تخطر على بال مخترعيه، وظيفة تمزيق نسيج المجتمعات.

حاجتنا ماسة لمزيد من الحرص فى التعامل مع هذه الشبكة العنكبوتية ولفهم أفضل لعوالمها الخفية وآفاقها اللا محدودة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved