بالأمس حلمت بك أيتها الثورة

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الأربعاء 30 أبريل 2014 - 4:05 م بتوقيت القاهرة

لم يكن أحدهم يكن احتراما للآخرين غير أن السقوط المروع جمعهم فى سلة واحدة عند النهايات المتزامنة.

الرئيس المصرى الأسبق «حسنى مبارك» دأب على النيل من الرئاسات العربية الأخرى فى جلساته التى لم تكن للنشر.

بذات القدر فإنهم كانوا ينالون منه فى جلسات مماثلة.

فى طبيعة العلاقات بين الرجال والنظم صورة مقربة لنذر انهيارات محتمة.

كان كل شىء هشا وخاويا.

النظم فقدت شرعيتها وصلتها بعصرها وأسئلته الملحة.

السقوط المتزامن للرؤساء المزمنين بدا كأنه ربيعا للديمقراطية غير أن القصة أكثر دموية من أن تنسب إلى الربيع ونسائمه.

عند صعود «مبارك» بعد اغتيال «أنور السادات» واجه عالما عربيا شبه مترنح تحت وطأة الخروج المصرى من معادلات الصراع العربى الإسرائيلى. طلب عودة الجامعة العربية إلى القاهرة ومضى فى الوقت نفسه على خطى سلفه التى استدعت تجميد العضوية المصرية.

كان الرئيس العراقى فى ذلك الوقت «صدام حسين» مستعدا أن يساند طلبه بأقصى ما يستطيع من نفوذ فى العالم العربى مقابل دور مصرى يسانده فى حربه مع إيران.

فى علاقة «مبارك» بـ«صدام» إشارات مبكرة على مستوى أداء الرئاسة المصرية.

لم يكن لها تصورات استراتيجية على درجة من الثبات النسبى فى إدارة ملفات المنطقة ودخلت فى تخبطات متتالية.

شارك «مبارك» فى تأسيس «مجلس التعاون العربى» تحت القيادة الكاملة لنظيره العراقى ودون أن يكون صاحب اعتقاد أصلى فى الفكرة ولم يزد دوره عن شريكيه الآخرين الرئيس اليمنى «على عبدالله صالح» والملك الأردنى الراحل «حسين».

راهن «صدام» القوى والطموح على شخصية «مبارك» التى تفتقد مواصفات القيادة والقدرة على المبادرة فى اكتساب نفوذ أكبر بمعادلات المنطقة التى تطلع لزعامتها.

فى الحرب العراقية الإيرانية وقفت القاهرة بجواره وساندته عسكريا وسياسيا ولم تكن هناك مشكلة تعترض «مبارك» فالولايات المتحدة تؤيد هذا المنحى ودول الخليج تحبذه.

الصورة اختلفت جذريا بعد الغزو العراقى للكويت واستحالت العلاقة الدافئة إلى عداء مستحكم وملاسنات متبادلة بعضها خرج إلى العلن.

طمح «صدام» لتأسيس دولة متقدمة عسكريا وصناعيا وعلميا وكاد يخرج بالعراق من دائرة الدول النامية لكن الأخطاء المروعة التى ارتكبها وطبيعة حكمه المصمتة سهلت نسبيا مهمة تحطيم العراق كله والعودة به إلى القرون الوسطى.

ولم يكن لدى «مبارك» طموحا يتجاوز الاستقرار فى الحكم وبدا لحد كبير أقرب إلى صورة الإدارى لا السياسى.

كلاهما تبنى توريث السلطة وتقوضت شرعيته فى ظروف مختلفة.

فى مشاهد احتلال العاصمة العراقية بغداد عام (٢٠٠٣) جرى خلط أوراق مخجل بين ضرورات الالتحاق بالعصر فى قيمه الديمقراطية وبين أهداف الاحتلال فى تفكيك الدولة على أسس مذهبية وعرقية لا تنتسب إلى أى عصر أو قيمة.

واجه «صدام» مشنقته بلا وجل واكتسب احتراما واسعا لم يحزه طوال حياته السياسية كلها بينما اتسقت مشاهد نهاية «مبارك» مع طبيعة شخصيته.

عند احتلال بغداد انهار عالما قديما وبدا أن عالما جديدا يوشك أن يولد.

لم يعد السؤال عن احتمالات السقوط بل عن مواعيده.

طوال السنوات التى سبقت ما أطلق عليه «الربيع العربى» تبدت فى مصر نذر تمرد سياسى واسع وضيق اجتماعى متزايد لكن أحدا لم يتوقع ثورة.

لا «مبارك» خطرت على باله ولا الرؤساء العرب الآخرين الذين سقطوا بالتزامن تصوروا أن ذلك ممكنا فى بلدانهم.

ما طلبه الحراك السياسى الواسع جرى اختطافه بصورة أو أخرى من بلد لآخر حتى بدا الربيع العربى كله مخاتلا وأسئلته عن الشرعية والديمقراطية ودولة القانون وحقوق المواطنة والعدالة الاجتماعية مازالت معلقة فى الفضاء الدموى للمنطقة المعذبة. وبدا الفصل كله أقرب إلى حلم الأديب الكبير «بهاء طاهر» الذى استحال كابوسا.

أكثر القصص الرئاسية تراجيدية فى الربيع المخاتل قصة «مبارك» والعقيد الليبى الراحل «معمر القذافى».

مدح فى البيان الرسمى إلى درجة التملق وهجاء فى الغرف المغلقة إلى حدود التشفى.

كلاهما تقادمت عليه العقود فى السلطة، «مبارك» لثلاثين سنة و«القذافى» لأكثر من أربعين سنة. أولهما جرف عافية مجتمعه وقدرته على النهوض ومواريثه تستنزف الطاقة حتى الآن وثانيهما قوض الدولة وفككها على نحو مريع ثمنه هو المستقبل الليبى.

عدوى التوريث ضربت النظامين الهرمين وعجلت بالتعبئة العامة لرحيلهما. التوريث نقض للشرعية لكنه لا يلخص وحده أزماتها المستحكمة.

العدوى ضربت اليمن وعائلة رئيسها السابق «على عبدالله صالح» الذى تقادمت عليه بدوره العقود فى الحكم.

لم يكن هو و«مبارك» يحترمان بعضهما الآخر. «صالح» يرى أن «مبارك» أصغر من أن يجلس على كرسى «عبدالناصر» و«مبارك» يراه أهون من أن يكون رئيسا.

لم يكن تقدير الأخير صحيحا لمدى خطورة الأول الذى أحكم سيطرته على السلطة اليمنية رغم رتبته العسكرية الصغيرة فى أعقاب اغتيال رئيسين على التوالى «الحمدى» و«الغشمى». ناور وهادن وضرب بحسابات برجماتية وأطلق قبل الربيع المخاتل قولته الشهيرة: «نحلق لأنفسنا قبل أن يحلق لنا الآخرون» قاصدا أن تكون هناك انتخابات ما قبل أن يطاحوا من مناصبهم الرئاسية.

بشكل أو آخر فإن التلاعب بالفكرة الديمقراطية نتائجها كانت وخيمة على «مبارك» بعبارته «خليهم يتسلوا» و«صالح» بنظريته فى «الحلاقة المبكرة».

التلاعب بالقواعد من أسباب السقوط المدوي، فالتلاعب لا يؤسس لشرعية أو مستقبل. ورغم دوره فى توحيد اليمن شمالا وجنوبا فإن سياساته أفضت إلى حرب بين الشطرين وتوحيد قسرى لما كان حلما ونزوع إلى الانفصال وتفكيك اليمن مجددا الذى أخفقت ثورته حتى الآن فى نقله من القبيلة إلى الدولة.

وفى التجربة التونسية فإن علاقات «مبارك» مع «زين العابدين بن على» بدت ملتبسة، فكلاهما يشبه الآخر من نواح عديدة غير أن كليهما لا يحترم الآخر. تبادلا الخبرات الأمنية قبل أى شىء اخر.

اعترض «بن على» سبل نقل بلاده إلى عصر تستحقه وديمقراطية مهيأة لها بانسجامها الاجتماعى الواسع وطبقتها الوسطى المتزايدة وإطلاعها على العالم. رسخ قواعد الدولة الأمنية وتنكر للتعهدات التى قطعها على نفسه عند انقلابه على قائد الاستقلال «الحبيب بورقيبة» الذى نال منه التقدم فى العمر والاعتلال فى الصحة بألا يجدد رئاساته بعد نفاد فتراتها الدستورية.

لم يكن له أولاد فى سن يسمح بالتفكير فى توريث الحكم لكنه كنظرائه أرسى حكما عائليا لا نظير لفساده المنهجى.

فى إطاحة «بن على» و«مبارك» بتوقيت متزامن حالة توءمة بين ثورتين طمحتا للالتحاق بالعصر وإقرار الديمقراطية فى بنية الدولة لكن الرحلة لم تكن سهلة ولا وعودها تجلت كاملة رغم الأثمان الباهظة التى دفعت. ما الذى حدث ولماذا فى الربيع المخاتل بأكثر تجاربه انتسابا إلى فكرة الثورة التى لم تتوافر فى التجارب الأخرى على أى نحو وبأى مقياس.

فى التجربة السورية فإن ما بدا فى بداياته حراكا شعبيا ضاق ذرعا بالنظام وقمعه الذى كرس للتوريث استحال بالوقت إلى حرب إقليمية بالوكالة ودخلت على الخط منظمات تكفيرية وتبددت فى شلالات الدم وعود الديمقراطية.

فى الربيع المخاتل قد تنشأ أوهام عودة عجلة الزمن إلى العهود التى أزيحت واستنساخ الرئاسات التى خلعت، فأسباب الأزاحة والخلع عميقة إلى حد يجعل من أوهام العودة مشروع اضطرابات أوسع وأفدح، والأسئلة التى استدعت الغضب وحركت كوامنه إما أن تجد إجاباتها أو تعاود طرح نفسها بانفجارات جديدة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved