عن تجديد الثورة العربية: الجزائر والسودان والغد الأفضل

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الثلاثاء 30 أبريل 2019 - 10:00 م بتوقيت القاهرة

من زمان اختفت كلمة «الثورة» من القاموس اليومى للمواطن العربى..

ولقد تجدد الأمل بالتغيير الذى يُخرج الأمة من كابوس القهر والتخلف والديكتاتورية مع انتفاضة «محمد البوعزيزى» فى تونس، التى بشرت بفجر عربى جديد لا يقف عند حدود «البلاد الخضراء»... وبالفعل فإن القاهرة لم تتأخر عن الانضمام إلى ركب الثورة من أجل التغيير، ونزلت الملايين إلى ميدان التحرير فى مشهد رائع قد يكون واحدا من أبهى الانتفاضات الشعبية السلمية فى العصر الحديث.

وكان منطقيا أن تتحرك الجماهير فى مختلف الساحات العربية طلبا للعدالة والحرية، فكانت انتفاضة مرتجلة فى سوريا سرعان ما ركبتها القوى الخارجية المناهضة للنظام. (تركيا والولايات المتحدة الأمريكية، أساسا، ومن خلفها العدو الإسرائيلى) فتحول مشروع الثورة الشعبية إلى «مؤامرة دولية ــ عربية» على سوريا بعنوان نظامها، دمرت البلاد وشردت العباد وسمحت بتقنين الوجود العسكرى لحليفى النظام (روسيا وإيران).. خصوصا أن القوات العسكرية التركية تقدمت فى الشمال السورى كراعية لتنظيمات إسلامية وعنصرية متعددة (إدلب وما جاورها حتى الحدود مع تركيا).

كذلك فقد اهتز فى العراق الوضع الذى استولده الاحتلال الأمريكى (عام 2003)، خصوصا أن حقبة حكم صدام حسين كانت قد دمرت الحياة العامة، وأعادت النفخ فى نار الطائفية والمذهبية، فضلا عن استخدام القوة المفرطة ضد الأكراد فى الشمال ومطالبتهم بنوع من الحكم الذاتى والإدارة المحلية بديلا من الانفصال.
صفحات من تاريخ جديد

ها نحن، الآن، مع الحراك الشعبى العظيم فى كل من الجزائر والسودان أمام صفحات جديدة فى التاريخ العربى الحديث تكتبها الجماهير بملايينها المحتشدة فى كل من الجزائر العاصمة وسائر المدن والقصبات الجزائرية، وكذلك فى الخرطوم عاصمة السودان، تطالب بإنهاء حكم الفرد المستند إلى «الجيش»، واستعادة الشعب أبسط حقوقه فى أن يكون هو مصدر السلطة، وهو من يختار نظامه وبالتالى رئيسه وحكومته ومجلسه النيابى فى مناخ من حرية الرأى والتفكير والتعبير يسمى «الديمقراطية».

نتيجة لهذه الانتكاسات التى بلغت ذروتها فى تشويه معنى «الثورة» وشرفها، ما جرى بعد ذلك فى ليبيا من هيجان شعبى دخلته مؤثرات خارجية عديدة، وكانت النهاية الوحشية للقائد الليبى معمر القذافى (ورفيقه المخلص أبوبكر يونس) فى مشهد غاية فى البشاعة، غرقت بعده ليبيا فى حرب مفتوحة، أعطت «الدول» فرصة ممتازة لمحاولة السيطرة على هذه البلاد قليلة السكان، هائلة المساحة، الغنية بثروتها النفطية.

وما تزال ليبيا، حتى الساعة، غارقة فى دماء أهلها، و«الدول» بغربها أساسا، مع مشاركة روسية خجولة، تتصارع بجماهير الشعب الليبى و«الجيوش» التى فبركت على عجل مستفيدة من مخلفات ما كان يمتلكه الجيش الليبى من أسلحة ثقيلة فيها الطيران الحربى (فرنسى وروس») والدبابات والمدافع.. إلخ

وبالطبع فإن هذه الحرب الأهلية، بنسبة ما، قد صارت ــ نتيجة تدخل «الدول» ــ حربا مفتوحة تشارك فيها أو ترعاها أو تحاول الاستفادة منها دول عديدة بينها الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا، وتتأثر بها دول عربية مجاورة مصر وتونس ثم تشاد ودول إفريقية عديدة.

على أن ما نشاهده الآن ونشهد على حدوثه فى كل من الجزائر والسودان هو النموذج الفذ للثورة الشعبية بمعناها الأصلى، أى المحصنة ضد الزور والتزوير كما ضد الخديعة التى طالما لجأت إليها الأنظمة التى تثور ضدها شعوبها.

ذلك أن الحراك الشعبى فى الجزائر كما فى السودان يقدم مشهدا تاريخيا غير مسبوق، أقله فى البلاد العربية، لعظمة الجماهير ووعيها وإصرارها على استعادة حقها فى حكم بلادها من أسطورة «القائد ــ البطل» الذى «يجسد إرادة الشعب»، كما من العسكر الذى يحكم هذين القطرين العربيين الغنى شعباهما بالتجربة البطولية ضد الاستعمار الاستيطانى الفرنسى (كما فى الجزائر) أو ضد الديكتاتورية العسكرية التى يحاول ضابط رفيع الرتبة مع عدد من الضباط التابعين له، أن يخضع لها شعب رفيع الوعى، غنى بالتجربة النضالية ويصر على استعادة حقوقه فى وطنه وبناء تجربته الديمقراطية بعد عهد من الطغيان طال واستطال حتى كاد الليل يقضى على الأمل بصبح جديد.

على هذا فإن الأمل بنتاج هذه الثورة الشعبية الرائعة يتجاوز إسقاط النظامين الفاسدين المفسدين، إلى إعادة الاعتبار للشعب وقدراته غير المحدودة متى أراد، وحقه فى بناء النظام الذى يليق بنضاله وتضحياته الممتدة عبر عشرات السنين.

والحقيقة أن معظم الأنظمة العربية، ملكية وجمهورية وإماراتية، قد فقدت شرعيتها، ربما لأن حكم الأسرة الواحدة أو الرجل الواحد، قد أبعد القيادة عن الشعب وأقام بينهما سدا من المصالح المذهبة التى تقسم البلاد إلى حكم مستبد يتحكم ــ منفردا ــ بالثورة الهائلة التى منحتها الطبيعة لتلك الأرض (ومياهها) وشعب مستبعد عن دائرة السلطة والقرار، يمضغ فقره مستكينا وإلا هوت السيوف على رءوس المعترضين فقطعتهم فى الميادين العامة لتكون عبرة لمن يعتبر.

لقد انتهى عصر الملك ــ الرئيس ــ الإمبراطورــ أمير المؤمنين ــ القائد المفدى ــ ..إلخ وحل عصر الشعوب والديمقراطية والانتخاب وحق الاختيار.

الشعب يُسقط الطغاة..

سقط الأباطرة فى أوروبا منذ عقود، وكذلك القياصرة فى روسيا، والملوك ــ الآلهة فى سائر أرجاء الدنيا، وساد العلم وأسباب المعرفة، وعرفت الشعوب حقوقها وأولها أنها هى ــ لا غيرها ــ صاحبة القرار فى شئون بلادها، كالحرب والسلم، والحق فى التقدم واللحاق بركب الشعوب التى تختار حكامها بالانتخاب الحر، وكذلك مجالسها النيابية التى تحاسب الحاكم إذا ما خرق الدستور أو تجاوز صلاحياته معتبرا أنه الحاكم الفرد الذى لا راد لقراره ولا شريك له فيه.

لقد أسقط الشعب فى الجزائر حاكمين طاغيتين، استعانا بالجيش على الشعب، فأفسدا البلاد والعباد: جاع الشعب مع أن طاقته على العمل فائضة عن حاجة البلاد (أو مهملة فى بلاده) فذهب يرهنها للأجنبى أو العربى (فرنسا وسائر أوروبا بالنسبة للجزائرى).. هذا فضلا عن الثروة الوطنية من النفط والغاز.
أما الشعب السودانى الذى عرف الأحزاب والنقابات منذ دهر والراقى بسلوكه السلمى برغم القمع، فقد «هج» إلى البلاد العربية أساسا (ومعها بريطانيا وبعض أفريقيا).

الملايين فى شوارع الجزائر العاصمة ومختلف المدن فى الشرق والغرب والجنوب.

والملايين فى شوارع الخرطوم والخرطوم بحرى فى بلاد النيلين، السودان، مع ذلك حافظت الجماهير على حقها فى التظاهر السلمى وإعلان رفضها النظام الديكتاتورى الذى يهين ــ بوجوده ــ كرامة الشعب ويغتال حقوقه وأولها حقه فى بناء غده الأفضل، بجهده وعرقه، مع الحفاظ على عزة نفسه.
ومؤكد أن قوى الاستعمار (قديمه الأوروبى وجديده الأمريكى ومعهما إسرائيل وبعض الدول العربية)، قد باشرت تآمرها على هاتين الثورتين الشعبيتين العظيمتين فى الجزائر والسودان، وأن أكياسا من الذهب ومعها أطنان من الوعود بالمساعدة، قد تدفقت على هاتين الدولتين اللتين بنيتا بالعرق والدم، أنهار الدم، والشهداء، الآلاف المؤلفة حتى المليون وأكثر من الشهداء.

بل إن بعض «الزعماء» العرب قد تجرأ على الشعب السودانى وثورته فطلب الإفراج عن الديكتاتور البشير، واستضافته بعيدا عن السودان، موجها إهانة لا تغتفر إلى هذا الشعب الطيب، عبر إعلان الاستعداد لمنح مساعدات عاجلة وقروض ميسرة بمليارات الدولارات لهذا الشعب الطيب الذى عانى من الديكتاتورية لأكثر من ثلاثين سنة متصلة، والذى أعاد الاعتبار ــ برغم قهر النظام ــ إلى أحزابه التاريخية (حزب الأمة، الحزب الشيوعى) وإلى نقاباته ذات الدور النهضوى المميز.

«بلادى، بلادى، بلادى، لكِ حبى وفؤادى»

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved