سَـــلالِم

بسمة عبد العزيز
بسمة عبد العزيز

آخر تحديث: الجمعة 30 أبريل 2021 - 8:15 م بتوقيت القاهرة

السَلالِم أنواع؛ بعضُها ثابتٌ والآخر متحرك، فيها الماديّ الملموس وما عُدَّ مِن قبيل المجاز، ولكُل من هذا وذاك دور في تفاصيلِ حيواتنا اليومية؛ رئيس.

***

سلمُ البنايةِ هو أهمُ جزءٍ فيها، إذا تهاوت منه أجزاءُ كانت إشارةً على حتمية الترميم، فإن تأجلَ أو فشلَ جاز التنكيسُ وصارت مأساة. هو أيضًا مَوضع لقاءِ الجيران الذين باتوا في عزلةٍ من بعضهم البعض، لا يعرف الجار أخبارَ جارِه إلا بالمُصادفةِ البحتة، والمُصادفةُ مكانها أغلب الأحيان السلم؛ منفعةٌ مشتركةٌ وسبيلٌ لا بد مِن المرور به ما غادر المرءُ منزلَه أو عاد. 

***

درج صناع الأفلامِ والمسلسلاتِ على تصوير السلمِ الخلفيّ كوسيلةِ هربٍ ومَوضع اختباءٍ؛ وقديمًا كان العاملون في خدمةِ البيوتِ يستخدمونه بانتظام. تطوَّر فنُ العِمارة وزالت من التصميمات الحديثة السلالِمُ الخلفية، بل وقاربت الأماميةُ أيضًا على الزوال؛ فمعظم الناس يكسلون عن الحركةِ وكثيرهم يفضل استعمالَ المصعد ولو لمسافةِ طابقٍ واحد. عن نفسي أفضل استعمال قدميّ ما استطعت. الحركةُ بركةٌ كما في حكمةِ الأولين، والسلمُ يمنح رفيقَه لحظات مِن خلوة التفكيرِ النشط؛ تنتهي فور الوصول. 

***

لا يكاد بيتٌ يخلو مِن السلم الذي يتم فرده وطيّه؛ هو مرتبط في العادة بقطعةِ الأثاثِ الأعلى ارتفاعًا أي؛ صوان الملابس الذي يحمل فوقَ سقفه خزينًا من المفروشاتِ والحقائبِ يختلف باختلاف المَوسم. كان السلمُ القديمُ خشبيًا، ثم اختفى وحلَّ محلَّه المعدنيُّ الثقيل، ثم توارى هذا لصالح الأخف وزنًا والأسهل حملاً، والأقل تحملاً في الوقت ذاته.

***

بعضُ الأرصفةِ عالٍ وكأنه صمِّم خصيصًا لمنع المشاة من استخدامه، وكما جرت العادةُ؛ يتغلب الناسُ على سخافات التخطيطِ بحلولٍ اجتهادية مُبتكَرة؛ فيضع أحدهم حجرًا كي يصنع درجةً وسطى تسهِّل الارتقاءَ، وتهوِّن مشقةَ انتظار عابرٍ يأخذ باليدِ الممدودة طلبًا للمساعدة.

***

بُحت الأصواتُ تطالِب بكباري مُشاه هنا وهناك، بعد توسيع الشوارع في عددٍ مِن الأحياء، بما جعلها مسرحًا لحوادث سيرٍ يومية. أقيمت بعضُ الكباري أخيرًا لكن سلالِمها لاحت ثابتة؛ تضطر الراغبَ في استخدامها لصعود ما يعادل طابقين أو ثلاثة. لم يفكر مسئولٌ في إنشاء سلالِم مُتحركة إلا بعد عزوف الناسِ عن بذل جهدٍ هو جد عسير، تمامًا مثلما لم يفكر المسئولُ في توفير وسيلةٍ لعبور الطريق؛ قبل وقوع خسائر في أرواح العابرين. 

***

هبوطُ السلم سهلٌ لذيذ وصعوده مُجهِد خاصةً والركبتان مُنهكتان، تحتكُّ عظامُهما ببعضها وتتآكل بينهما الغضاريف، تاركة صاحبها في ألمٍ مُزمن، وعجز عن حملِ وزنه ولو كان مثاليًا؛ فإن زاد كيلوجرامات بسيطة، مثلت الزيادةُ عبئا مُضاعفًا وربما أقعدته عن الحركة. 

***

من بين السلالمِ المجازيةِ؛ سلمُ المجدِ وسلمُ الشُهرة. لا يرتبط السلمان بأي حال؛ فالشهرة انتشار وذيوع صَيت لا يتطلَّب رفعةَ شأنٍ أو نبلًا مِن العمل وسموًا. قد يشتهر المرءُ لجريمةٍ ارتكبها، أو حماقةٍ وقع فيها، أو غرابةِ فعلٍ تعمَّدها أو غفل عنها؛ والأمثلةُ على هذا وذاك عديدة. قلةٌ هم أو فلنقل ندرة؛ مَن يحظون بدرجات مِن سلمِ المَجد، وكثرة بل وفرة يتكالبون على سلمِ الشهرة وشتان ما بينهما. 

***

السلمُ الاجتماعيّ هو كذلك مِن المجاز المُتعارف عليه؛ صعوده مَرير ما غابت الوساطةُ، واعتلاء قمته وارد ما توفرت، ومعها نوايا صادقة تتيح بعض التنازلات وتفتح أبوابَ المساوماتِ، وتهدئ الأخلاقَ، وتزين ثلةً من عقيمِ التصرفات وتجعل لها أسماءً كريمةً لا يأنف الصاعدون مِن ذكرها. على درجات هذا السلمِ تراقصت الطبقةُ المتوسطة في الأعوام الأخيرة، وأوشكت على دقِّ عنقها أثر سقطات مُتعاقبة، فيما طبقات أخرى تخلقت واندفعت تحلُّ محلَّها.

***

مِن ذكرياتِ الطفولةِ التي طابَ قضاءُ الوقت معها؛ لعبةُ السلَّم والثعبان. لوح من الورق المقوى مُقسم لمربعات وفيه أعداد ورسوم لسلالم وثعابين، فيما الزهر حاكمٌ لحركة اللاعبين؛ صاعد بهذا وهابط بذاك، والفوز لمن وصلَ إلى النهايةِ قبل منافسيه. مثلت درجاتُ السلم في بيت العائلة موطنًا لألعابٍ لا حصر لها؛ أبسطها التباري بين أبناءِ وبناتِ الجيران في ارتقاء أعظم ارتفاع ثم التجرؤ على القفز. تلك كانت لعبة تدكُّ المفاصلَ دكًا وترتج لها الأجسامُ بل والبنايةُ كلها؛ لكنها دامت أثيرةً عندنا مُفضلة على غيرها.

***

يخرج كثيرُ المغنيين عن السلمِ الموسيقيّ؛ فيضخون نشازًا في آذان السامعين، وإذا كان اختيار الصوتِ والأغنية حقًا متاحًا للسامع؛ فرفع الآذان من الجوامع ليس محلَّ اختيار. بعضُ المؤذنين مُنفر في دعوته للصلاة، لا أذن موسيقية ولا إحساس بالمقامِ وحدوده وأبعاده، والجالس في بيته لا يملك خفضَ الصوتِ أو الاعتراض.

***

طالما تساءلت عن سلمِ الحافلة العامة المتعالي؛ الذي لا يمكن لشيخ أو عجوز ارتقائه، خاصة والحافلة تسير كدأبها، ولا تتوقف في محطتِها، وعلى راغب الركوب أن يمدَ الخُطى فيما يتمهل السائقُ، ثم يقفز قبل معاودة السير بسرعة كاملة. بين حافلة مَحلية وزميلتها في دولة أوروبية فارقٌ شاسع. أبهجتني رؤيةُ الحافلةِ في مدينة ألمانية منذ سنوات طوال؛ إذ تنخفض كي تسمح لرجلٍ على كرسيّ مُتحرك بالدخول إليها؛ دون أن يحمله أهل الخير عطفًا وتضامنًا.

***

على كل حال؛ الهبوطُ أسهلُ على الدوام مِن الصعود؛ على سلالِم البنايات والحافلات وما في حكمها، وعلى سلالِم الحياة أيضًا.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved