تعاليم السيد المسيح بين التراث والمعاصرة

إكرام لمعي
إكرام لمعي

آخر تحديث: الجمعة 30 أبريل 2021 - 10:53 م بتوقيت القاهرة

ظهر السيد المسيح فى فلسطين فى بدايات القرن الأول الميلادى فى بيئة يهودية تقليدية لها آلاف السنين. وقد وضح من تعليمه أنه ضد تفسير المعلمين اليهود للتوراة ولكتب الأنبياء فى ذلك الوقت، لذلك قاومه العلماء اليهود ورجال الدين رافضين ما يقوله ويفعله. وأذكر لك – عزيزى القارئ – مثلا بسيطًا وسهلًا فى هذا الصدد وهو موقف السيد المسيح من تقديس يوم السبت، فاليهود كانوا وما زالوا يقدسون يوم السبت بطريقة متشددة وغريبة فهم يرفضون عمل الخير فى يوم السبت بل يعتبرونه كسرًا لقداسته، وكما تعلم – عزيزى القارئ – أن اليهود يقدسون يوم السبت بدرجة فيها مغالاة شديدة، وسأذكر لكم واقعة حديثة وأخرى قديمة؛ الواقعة الحديثة حدثت عندما كنت فى زيارة لبيت لحم فى مؤتمر يجمع علماء من رجال الدين المسيحى وعلمانيين هناك، وفوجئت أنهم يوقفون استخدام المصعد يوم السبت لأن السبت يوم مقدس، وقد تعجبت جدًا لأن المصعد يساعد كبار السن، والمعوقين وهذا فعل خير وليس شرا. أما المثل القديم فى مغالاتهم فى تقديسه فقد حدث مع السيد المسيح عندما خرج برسالته إلى العامة، ودخل مجمع (نظير المسجد والكنيسة) يتعبد فيه اليهود، وبينما يتعبد السيد المسيح مع اليهود، لاحظ أن هناك رجلًا يَدُه يابسة (مشلول اليد)، وهنا صار اليهود يراقبون السيد المسيح متسائلين: هل سيقوم السيد المسيح بشفائه يوم السبت؟ وذلك لكى يشتكوا عليه لأن تعليمهم يمنع حتى مساعدة الفقراء فى يوم السبت بل ويعتبرونها خطيئة، لكن السيد المسيح نظر إلى الرجل صاحب اليد اليابسة قائلًا له: قم فى الوسط. فجاء وقام فى الوسط، وهنا التفت السيد المسيح إلى المحيطين به وسألهم: هل يحل فى السبت فعل الخير أم فعل الشر؟! تخليص نفس أو قتل؟ فسكتوا وكأن على رءوسهم الطير، فنظر حَوله وإليهم بغضبٍ حزينًا على غلاظة قلوبهم، وقال للرجل: مُد يَدك. فَمدّها فعادت يَده صحيحة كالأخرى. فخرج اليهود وتشاوروا عليه لكى يُهلكوه، لأنهم اعتبروه قد قام بارتكاب خطيئة يستحق عليها الموت لأنه يشفى الناس فى السبت! من هنا وحتى نهاية رسالة المسيح قام صراع بين تعليمه الجديد والتعليم اليهودى القديم، وعندما تكرر مثل هذا الموقف كثيرًا تناول السيد المسيح هذه الظاهرة (شفاء يوم السبت) بتقديم مَثلٍ من الحياة اليومية، حيث اشتهر السيد المسيح باستخدامه أمثال من الحياة اليومية لكى يُعبر بها عن الفكرة التى يريد إيصالها لمستمعيه. وكان مَثلُه فى هذه المرة يتناول عملية عصير العنب والذى يقوم اليهود بعد جَنيه وعصره، بوضعه فى القِربة التى تُصنع من جلود الحيوانات والتى كنا نراها فى الريف المصرى حيث تستخدمها نساء القرية لوضع اللبن فيها (وخضها) لإخراج الدسم منها وفصل السمن على حدة واستخدام اللبن المتبقى فى صنع الجبن، لكن اليهود كانوا يستخدمون هذه القِرب لتخزين عصير العنب الطازج للعام التالى، وفى نهايته يخرجون عصير العنب وقد اختمر لمدة عام، ثم يتخلصون من القربة بطريقة أو أخرى، لأنها لا تصلح للاستخدام هكذا مرة ثانية لأن جلدها يكون قد جف، وإذا وضعوا فيه محصول عصير العنب الجديد سوف يتفاعل كيماويًا، ويشق القربة فتتمزق والعصير يتلف بسقوطه على الأرض، لذلك فى كل عام لابد وأن يوضع العصير الجديد فى قرب جديدة.

بهذا المثل عبّر السيد المسيح عن أن رسالَتَه تُشبه محصول العنب الجديد، لذلك لابد وأن يوضع فى إطار (قربة) جديدة، لأن القربة التى كانت تحتوى التعاليم اليهودية القديمة غير قادرة على تحمل التعليم الجديد، لأن التعليم الجديد سوف يُمزق الإطار القديم، وهو هنا لا ينتقد تعاليم العهد القديم (التوراة والأنبياء) لكن ينتقد الإطار التفسيرى الذى وضع فيه اليهود التعليم. فالتعليم فى هذه الحالة وضِع فى إطار حضارات قديمة كانت مناسبة له، والمطلوب الآن أن يوضع نفس التعليم فى إطار الحضارة اليونانية الرومانية التى كانت فى قمتها فى القرن الأول الميلادى. لذلك على مفسرى التوراة والأنبياء إعادة التفسير للنص المقدس القديم والثابت فى إطار الحضارة الجديدة المختلفة تمامًا عن التفاسير التى قُدمت فى الحضارات السابقة الآشورية والبابلية... إلخ.

***

من هنا أعلن السيد المسيح أنه ومعاصريه من القيادات الدينية عليهم تقديم كلام الله القديم الذى لا يتغير مع الزمن فى إطار الحضارة الحديثة، وهنا سوف يقوم التعليم الجديد بالتفاعل مع الحضارة الجديدة المناسبة للعصر وبالتالى يكون مفهومًا ومقبولًا من الجيل المعاصر. أما الذين يقومون بفعل ذلك هم المفسرون الذين يستوعبون الحق القديم غير المتغير واضعين إياه فى إطار جديد مناسب للعصر مقدمينه للجيل الجديد. من هنا أعلن السيد المسيح أن كل كاتب (فقيه أو لاهوتى) مُثقف يُخرِج من مخزونه الحضارى والدينى والثقافى الحق القديم الثابت فى شكل جديد يناسب الحضارة الحديثة، وهكذا يقول السيد المسيح بالنص موجهًا كلماته لرجال الدين العلماء المثقفين «كل عالم دين مثقف عليه أن يُخرج من كنزه، أى مخزونه العلمى الفقهى (اللاهوتى) والثقافى، ما هو أساسه قديم لكن فى إطارٍ جديد يناسب العصر الحديث وحضارته».

هنا نقول ماذا يعنى ذلك؟!

***

أولًا ــ كل تعليم جديد (حديث) يجب أن يكون مؤسسًا على تراث قديم، أى له أساس قديم. وقد وجه السيد المسيح رسالة إلى علماء اليهود قائلًا لهم: «لا تظنوا إنى جئتُ لأنقض الناموس والأنبياء.. ما جئت لأنقض بل لأكمل». وأكمل هنا أى يقدم إطارًا وتفسيرًا حديثًا للنص القديم، فالله– حاشا له– أن يغير رؤيته. ويعنى أيضًا أنه على المعلم الدينى المتدين أن يضع تعليمه فى صياغة واحدة، أى القديم والجديد معًا دون انفصال، فلو عاشت الجماعة «القديم» فقط تحولت إلى أشباح تأتى من الماضى بدروس ليست معاصرة، وعادات وتقاليد لا تتناسب مع الزمن الحديث ولغة غير مُدرَكة أو مفهومة من الأجيال الحديثة التى تعيش حضارة الذرّة والقرية الواحدة، وعبقرية الاتصالات والتواصل الاجتماعى، واللغة الجديدة التى تتجدد كل يوم، والعادات والتقاليد التى تتغير، والاختراعات الحديثة... إلخ. فى ذات الوقت لو عاشت الجماعة الحضارة الجديدة دون أساس من الماضى لمعرفة كيف يُفسَر الحق القديم بفكر جديد، سوف تتعرض للتسطيح والجرى خلف أى فكر جديد لا جذور له أى كما يصفونه «جيل مسطح محمول بكل ريح تعليم» أى يجرى خلف التعليم الجديد بدون فحص أو تمحيص فى أساسياته القديمة التى لا تتغير، ولا إدراك حقيقى للحديث الذى أضيف ليكون مناسبًا للعصر المعاش اليوم.

ثانياــ عظمة الحقيقة تتجلى فى صراع القديم مع الجديد. فعندما يُوجد فكر جديد يوضع بجوار أو بمحاذاة الفكر القديم، أى التراث مع المعاصرة، فلا يُشطب القديم ولا يؤخذ الجديد على علاته، لكن بالتفاعل والنقاش المستمر والصراع الفكرى النقى الأمين بدون مصالح شخصية تَخرج الحقيقة مُتجلية واضحة بسيطة ومفهومة، بل عملية وعصرية. ولقد حدث ذلك فى تاريخ العالم عشرات المرات، بل يبدو وكأنه قانون فى تاريخ الشعوب. فكلما نوقشت حقيقة ما وقد أخذها الناس على أنها الحق والحقيقة، ثم جاءت أفكار جديدة مع رؤى جديدة لذات الفكرة، هنا يحدث نوع من التحرير للفكر القديم بعد غربلته وتتجلى بؤرة الحقيقة القديمة فى لباسٍ جَديد يتناسب مع العصر؛ بسيط وعملى ومعاصر.

وقد حدث ذلك أكثر من مرة بل ويبدو كقانون فى تاريخ الشعوب، فعندما تلتقى الحقائق القديمة مع المعرفة أو المعارف الجديدة التى استجدت إما بالتعليم أو من المخترعات الحديثة، أو الاكتشافات على الأرض أو فى القمر أو الكواكب، هنا يتحرر الإنسان فالتعليم المتجدد تحرير متكرر ومستمر للحضارة الإنسانية.

ثالثاــ رؤى المستقبل تنبع من انصهار القديم والجديد معًا. من المعروف والحتمى أن الذى يعيش فى الماضى فقط يفقد الرؤية المتجددة، بل ويفقد التواصل مع معطيات الحاضر (هنا والآن)، بل ويفقد رؤى المستقبل. أما الذى يعيش الجديد فقط لا تتكون لديه أساسيات لرؤى مستقبلية، لأنه عندما يُعلن آراءه لا تجد لها سندًا من التاريخ أو أساسًا متينًا تقف عليه رؤاه وآراؤه.

أما الذى ينصهر فى داخله التراث مع المعاصرة (القديم مع الجديد)– سواء كان فردًا أو جماعة – يستطيع أن يقدم رؤية متكاملة للمستقبل، وهنا نتساءل ماذا نعنى بالرؤيا؟ والتعريف الأشهر والأقرب للواقع هو أن الرؤيا هى ما يجب أن يكون عليه المستقبل. فالرؤيا ليست تنبؤات بالمستقبل وليست أيضًا أحلام يقظة وكذلك ليست مجرد أهداف تتحقق، لكن الرؤيا هى فن صناعة المستقبل. فنحن لا ننتظر المستقبل لكى نشارك فى وضعه وتعضيده، لكن نكون نحن صانعوه. وهنا لابد أن تكون لنا وقفة للإجابة على سؤال: كيف نصنع مستقبلنا؟!

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved