الصحوة الإسلامية فى العلاقات الدولية

أحمد عبدربه
أحمد عبدربه

آخر تحديث: السبت 30 أبريل 2022 - 8:00 م بتوقيت القاهرة

فى آخر مقال من سلسلة «تاريخ السياسة الدولية منذ القرن العشرين» كنت قد أوضحت الكيفية التى أثرت بها أزمة البترول العالمية على علاقة الدول الكبرى وفى مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية بالمملكة العربية السعودية وكيف أن الأخيرة قد اكتسبت المزيد من الأهمية الإقليمية والعالمية. لم يكن الأمر فى الحقيقة هو مجرد أهمية دبلوماسية لدولة أو لنخبة ملكية حاكمة، ولكن الأمر تعدى ذلك ليشمل إعادة تشكيل الوعى الإسلامى سياسيا واجتماعيا وثقافيا واقتصاديا لعقود لاحقة استمرت ومازالت لتشكل واحدة من أكبر محكات الصراع السياسى والثقافى فى الدول ذات الأغلبية المسلمة ولا سيما تلك القابعة فى المنطقة العربية.
ولكن وقبل أن نتحدث باستفاضة عن تطور الصحوة الإسلامية، وكيف أثر ذلك على السياسات الإقليمية والدولية، لابد أولا أن نلقى نظرة بها بعض الإسهاب عن مفهوم «الصحوة» نفسه. الحقيقة أن مفهوم الصحوة الإسلامية هو مفهوم يسبب الكثير من الارتباك لدى الباحثين والسياسيين لتعدد ما قد يعنيه المصطلح ذاته!
• • •
يمكن أن نشير أنه منذ نهاية القرن التاسع عشر، حينما ظهر تيار التجديد والتحديث الإسلامى على يد جمال الدين الأفغانى ومحمد عبده وحتى الآن فإن المفهوم قد فهم بأشكال وبرؤى متعددة، نحدد منها أربعة أشكال رئيسية فى هذه المقالة:
الرؤية الأولى (تجديد الفهم فى ضوء التطورات المعاصرة): وهذا الفهم يرى أنه بما أن الإسلام صالح لكل مكان وزمان فلابد من أن يتم تجديد فهمه فى إطار الحياة المعاصرة للمسلمين، كون أن العلوم والفنون والأدب والجغرافيا والثقافة للمسلمين منذ ١٤ قرنا لم تعد هى القائمة الآن ومن هنا فلابد أن يتم تجديد فهم الدين فى إطار هذه التطورات، بل وبما أن المسلمين يعيشون الآن فى منطقة جغرافية شديدة الاتساع من غرب الكرة الأرضية إلى شرقها ومن جنوبها إلى شمالها، فإنه وحتى فى نفس الزمان قد يختلف فهم الدين من مكان إلى آخر! يتأثر هذا الفهم بالحديث المنسوب للرسول (ﷺ) «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها»، ومن هنا فإن هذا الفهم لا يرى أنه من الممكن تجديد الخطاب الدينى دون تجديد الفهم، ولا يمكن تجديد الفهم دون تجديد المنهج نفسه!
الرؤية الثانية (الدين كمسألة روحية تترفع عن الماديات): ويرى هذا الفهم أن تجديد الدين أو صحوته هو تجريده من الماديات وابتعاده عن حلبة السياسة وصراعاتها، والاكتفاء بالمناجاة الروحية والتطهر الذاتى، حيث يركز المسلم على نفسه كفرد لتزكية نفسه وتصحيح أخلاقه وسلوكه كوسيلة للسعادة الأبدية فى الدنيا والآخرة.
الرؤية الثالثة (الإسلام كمظلة حضارية): وفى هذا الفهم لمحة عولمية معاصرة للإسلام، إذ إنه يتشابه مع الشكل الأول فى الدعوة إلى فهم الدين فى ضوء التطورات المعاصرة، ولكنه يتجاوز الشكل الأول ليقدم رؤية حداثية تدمج الإسلام فى بوتقة الحضارات الحديثة من ناحية، ومن ناحية أخرى يقدم الإسلام نفسه وفقا لهذه الرؤية ليس فقط كدين خاص بالمسلمين، ولكن كمظلة حضارية تستوعب المسلمين وغير المسلمين فى إطار من العيش المشترك والمساواة فى الحقوق والواجبات تأسيسا على مبدأ المواطنة! وكما نرى فإن هذا الفهم يقبل بالتطورات السياسية الحديثة (الدولة القومية، المواطنة، الدستور، الأحزاب، الديموقراطية... إلخ)، وبهذا المعنى فإن الإسلام هو حضارة عالمية تتسع للجميع!
الرؤية الرابعة (العودة إلى السلف): فعلى عكس كل الأشكال السابقة، فإن هذا الفهم يقدم رؤية تبدو مضادة تماما لمفهوم الصحوة والتجديد، ولكنه يتمسك بأن هذا ما تعنيه الصحوة! يضع هذا الشكل رؤية يوتوبية لدولة الإسلام محاولين العودة إلى دولة الرسول والصحابة بكل ما فيها من مفردات (حتى تلك المفردات الجغرافية والشكلية)، معتبرين أن الصحوة هى إعادة إنتاج هذا المجتمع عن طريق التمسك بحرفية النصوص والعودة إلى السلف حصرا فى اعتماد تفسير الدين! تقدم هذه الرؤية موقفا شديد التعنت تجاه كل المنتجات السياسية الحديثة، فترفض الدساتير والقوانين الوضعية، وترفض كل أشكال التنظيمات السياسية الحديثة من أحزاب وانتخابات وديموقراطية، كما أنها ترفض مفاهيم المواطنة وتطعن فى إمكانية المساواة فى الحقوق والواجبات بين المسلمين وغيرهم... إلخ.
• • •
فما علاقة كل هذه الرؤى المختلفة بتطور العلاقات الدولية؟
الحقيقة أن لكل رؤية من الرؤى السابقة، ولاسيما الرؤيتين الثالثة والرابعة تأثيرا كبيرا على تطور السياسة الدولية، ولكن بما أننا نتناول التطور التاريخى بترتيب الأحداث، فإنه يجدر بنا أن نركز على الرؤية الرابعة وهى التى تم تقديمها كصحوة إسلامية أثرت على تطور السياسة الدولية منذ السبعينيات، وخصوصا أنها أنتجت الكثير من الحركات الإسلامية التى تراوحت بين السلفية والسلفية الجهادية وغيرها من حركات كانت مسارا لتطور السياسات الدولية حتى بعد انتهاء الحرب الباردة بل وحتى الوصول إلى العقدين الأولين للقرن الواحد والعشرين!
يمكن هنا فهم كيف ارتبطت هذه الرؤية الرابعة لمفهوم الصحوة بصعود المملكة العربية السعودية على المسرحين الإقليمى والدولي! فرغم أن المملكة السعودية لم تقم بشكل رسمى بدعم أو بتبنى أيٍ من هذه الحركات، ولكنها ساهمت فى سيادة الفهم الوهابى للإسلام وهو الفهم الذى سيطر على معظم الحركات السلفية والجهادية، العنيفة منها والسلمية بما فيها حتى الحركات التى وجهت عداءها إلى المملكة العربية السعودية بعد ذلك!
والفهم الوهابى للإسلام يمكن اختصارا القول إنه فهم سلفى، ولكنه متأثر بتعاليم وتفاسير محمد ابن عبدالوهاب الذى أسس الحركة الوهابية فى القرن الثامن عشر والتى تحالفت مع الأمير محمد بن سعود لتشكل الشرعية الدينية/السياسية للدولة السعودية الأولى، واستمر الأمر هكذا حتى تأسست الدولة السعودية الحديثة فى ١٩٣٢ واستمر هذا هو الفهم المؤسس للإسلام والسياسة والثقافة فى المملكة العربية السعودية حتى تولى محمد بن سلمان ولاية العهد فى المملكة، ولهذا حديث آخر لاحق!
لكن لم تكن الوهابية هى مجرد فكر ورؤية سلفية للدين فى السعودية، ولكنها ومنذ السبعينيات ومع تصاعد دور المملكة إقليميا أصبحت المسيطرة على الفهم الشعبى (وأحيانا النخبوي) للدين الإسلامى فى المنطقة العربية، ثم تسلل الفهم تدريجيا ليشكل أيضا الوعى الإسلامى لكثير من المسلمين فى أفريقيا وآسيا، بل وبين المهاجرين المسلمين فى أوروبا وأمريكا الشمالية وأستراليا!
ولتقريب الفكرة، فلنعطِ هذا المثل البسيط، تخيل أن مواطنا مصريا فى منتصف العشرينيات من عمره تزوج للتو ثم حصل على فرصة عمل (إعارة) للملكة العربية السعودية أو لغيرها من دول الخليج العربى فى منتصف السبعينيات أنجب أولاده هناك ودخلوا المدارس ودرسوا الوهابية وتأثرت الأسرة كلها بالفهم الوهابى للإسلام! عاد الأولاد والبنات والأم مع نهاية الثمانينيات حتى يلحقوا بالجامعة فى مصر بعد أن انتهوا من دراسة المرحلة الثانوية هناك ثم لحق بهم الأب فى منتصف التسعينيات، بماذا نتوقع عن شكل وثقافة هذه الأسرة والكيفية التى أثرت بها على المجتمع المحيط بها (الأقارب والجيران)؟
بكل تأكيد عادت الأسرة مختلفة فى كل شىء، فهى أولا عادت فى وضع اجتماعى ومادى أفضل نظرا لارتفاع الأجور فى دول الخليج، وحرص الكثير من المصريين وغير المصريين هناك على الادخار، كما عادوا بثقافة مغايرة تماما للثقافة التى كان عليها الأب والأم حينما سافروا قبل ربع قرن من الزمان، نظرا لهذا الوضع الاجتماعى والمادى المميز فإن تأثيرهم على الأهل والأقارب والجيران والأصدقاء يكون كبيرا، ومن هنا بدأت تنتشر الثقافة الوهابية لتسيطر على فهم الكثير من المصريين وغير المصريين للإسلام!
قطعا كانت هناك أشكال أخرى لانتشار الفهم الوهابى للإسلام، فمعظم المراكز الإسلامية التى تم إنشاؤها بدعم من المملكة فى الكثير من الدول الإسلامية وغير الإسلامية تبنت أيضا هذا الفهم الوهابى للإسلام، ولما كانت الفتوى الإسلامية هى واحدة من أهم أدوات تشكيل وعى المسلمين وثقافتهم الدينية والحياتية، فإن هذه المراكز بدورها من خلال التعليم والإفتاء سيطرت على فهم الكثير من المسلمين لدينهم بهذا المنهج!
لكن كيف أثر ذلك على تطور السياسة الدولية فى تلك المرحلة؟ هذا ما تناوله فى المقال القادم.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved