ليلة القدْر لا القدَر!

أكرم السيسى
أكرم السيسى

آخر تحديث: الجمعة 31 مايو 2019 - 1:10 ص بتوقيت القاهرة

من إحدى معجزات ليلة القدر هو تسميتها بهذا الاسم، لأن كلمة «القدر» هى اسم يحظى بمعان متعددة، وبالتالى يعطى مدلولات كثيرة ومتنوعة، وهذا دليل على أهميتها وقدرها، ويعتبر تعدد المدلول للكلمة الواحدة ظاهرة لغوية تسمى بالفرنسية (polysémie)، وبالإنجليزية (polysemy).

وسوف نحاول استنتاج أهم هذه المعانى من خلال طريقتين لكتابة ولقراءة هذه الكلمة، الطريقة الأولى تكتب وتقرأ (بتسكين الدال) «القدر»، وتعنى فى هذه الحالة أن يبلغ الشىء مبلغه، وقدر الشىء أى قدره من التقدير، كما فى قوله تعالى «وما قدروا الله حق قدره»، أى ما عظموه حق تعظيمه؛ والثانية (بفتح الدال) «القدر»، وهى ما يقدره الله من القضاء الذى يقضى به على عباده.

لقد تجاهل الوعى الجمعى العام لدى المسلمين المعنى الأول، وتبنى الثانى، وهو القدر (بفتح الدال)، مع العلم بأن «القضاء والقدر» هو أهم عنصر فى عقيدة المتصوفة الذين يرون أن الأعمال الإنسانية وما يترتب عليها من سعادة أو شقاء، وكذلك الأحداث الكونية، كلها تسير وفق نظام أزلى ثابت، موجود فى اللوح المحفوظ، لا تغيير ولا تبديل فيه، فقضاء وقدر تعنى دون قصد، أو تدبير من أحد، فهو من صنع الله وحده سبحانه وتعالى.

والأمر الذى يؤكد هذه الفرضية هو ترجمات «ليلة القدر» إلى اللغات الأجنبية، ففى الفرنسية ترجمت (La Nuit du Destin)، وفى الإنجليزية (The Night of Decree)، وفى الألمانية (Nacht der Vorherbestimmun)، وفى الإسبانية (La Noche del Destino)، مع ترجمات أخرى مرادفة لنفس المدلول والمعنى فى كل اللغات السابقة، هذا هو التفسير الشائع بين أغلب الناس، وبالتالى انتقل إلى اللغات الأخرى بنفس مدلول «القضاء والقدر».

***
فى الحقيقة، نحن نرى أن التفسير السابق اعتمد على مفهوم واحد موجود فى القراءة الثانية لكلمة «القدر» (بفتح الدال)، وأبعد التفاسير الأخرى الموجودة فى القراءة الأولى «القدر» (بتسكين الدال)، بل ويمكننا القول ــ من وجهة نظرنا ــ أن هذا التفسير الذى نقل مفهوم «القضاء والقدر» هو الأضعف إن لم يكن الخطأ!

وحجتنا فى ذلك أن القرآن كله كالسورة الواحدة، أى أنه يفسر بعضه بعضا، هكذا تبدأ سورة الدخان بقوله سبحانه: «حم، والكتاب المبين، إنا أنزلناه فى ليلة مباركة، إنا كنا منذرين، فيها يفرق كل أمر حكيم، أمرا من عندنا إنا كنا مرسلين، رحمة من ربك إنه هو السميع العليم»، والمقصود بالليلة «المباركة» هو ليلة القدر.

ومما سبق، نرى أن الوصف الثانى الذى جاء به القرآن الكريم لليلة القدر هو أنها ليلة «مباركة»، وما ذكر غير ذلك فى سورتى «القدر»، و«الدخان» هو تفصيلات لأحداث الليلة؛ فهى «مباركة»، وذات قدر عظيم لأنها الليلة التى أنزل فيها القرآن، فكانت خيرا من ألف شهر؛ واحتفاء بها نزلت فيها الملائكة بأمر من ربهم فضاقت بهم الأرض، كما فى قوله: «وأمآ إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه»، وهذا معنى ثان لمسمى «القدر» (بفتح الدال).

ونجد معنى ثالث (بفتح الدال) فى قوله: «فيها يفرق كل أمر حكيم، أمرا من عندنا»، وهو ما يقدره الله ويحكم به، وفى معنى رابع (بفتح الدال) أيضا، هو أن يقدر الشىء بالشىء، وجعله على مقداره، موافقة ومساواة، فكل هذه التفسيرات هى اجتهادات يمكن أن تصيب ويمكن أن تخيب.

إلا أن كتابة كلمة «القدر» المرسومة فى القرآن الكريم هى بتسكين الدال، وليس بفتحها، وكذلك نطقها فى كل القراءات هى أيضا بتسكين الدال، ولهذا نرى أن الترجمة الصحيحة باعتبارها ليلة ذات قدر رفيع، وشأن عظيم، تكون بالفرنسية La Nuit Glorieuse / de la Grande Valeur، وبالإنجليزية (The Glorious / Valuable Night)، وهذا ما فات كثير من المترجمين والمفسرين من قبلهم! وأما التسمية الثانية لليلة القدر التى جاءت فى سورة الدخان «إنا أنزلناه فى ليلة مباركة» تكون ترجمتها بالفرنسية (La Nuit Bénie)، وبالإنجليزية (The Blessed Night)، وهذه لا خلاف عليها.

***
والآن لابد من مناقشة سبب انتشار تفسير ليلة القدر بقراءتها وكتابتها بفتح الدال، وباعتبارها فى المقام الأول ليلة «القضاء والقدر»، أو بما يقدره الله على العباد،... إلخ!، وليس بقراءتها بتسكين الدال، بوصفها الليلة ذات القدر الجليل، والمقام الرفيع، والشأن العظيم، نرى أن السبب فى ذلك هو العقلية العربية التى أصبحت تميل إلى تغليب الغيبيات على العقلانيات، وذلك منذ أن تم القضاء على فرقة «المعتزلة»، فى عهد الخليفة المتوكل (٨٤٧ ــ ٨٦٢) فى الدولة العباسية، الذى قضى على التفكير النقدى، واعتمد على الخطاب الدينى، وأدخل الدين فى السياسة.

لقد كانت «المعتزلة» الفرقة المستنيرة فى تاريخ الحضارة الإسلامية، التى أعلت قيمة العلم والعقل، فحققت تقدما هائلا فى كل المجالات فى بداية عصر الدولة العباسية، كما أنها رسخت لمفهوم المواطنة، فشجعت على تولى الشيعة والمسيحيين واليهود المناصب العليا فى الدولة، ولكن بعد محاربتهم فى عهد الخليفة المتوكل انقلبت الأوضاع واستمر التدهور فى عهود من تلاه (من 862 إلى 902م) وهم: المنتصر بالله، والمستعين بالله، والمعتز بالله، والمعتمد على الله، والمعتضد بالله، فأسمائهم تشير إلى تفكيرهم، وهذا ليس ببعيد عن ملك فرنسا لويس الرابع عشر (1638 ــ 1715م)، والذى كانت كنيته Dieudonné أى «عطاء الله» لأنه ادعى أنه يستوحى أفعاله من الله!

كما أن تغليب تفسير ليلة القدر بـاعتبارها «القضاء والقدر» على التفسيرات الأخرى يكشف بوضوح عن شيوع العقلية «اللوترية» لعامة المسلمين، فهم يتعاملون مع ليلة القدر ليس باعتبارها الليلة المباركة، ذات القيمة الرفيعة، والشأن العظيم، لنزول القرآن الكريم فيها، ولكن باعتبارها ليلة «الحظ» التى إذا صادفت أدعيته وصلاته هذه الليلة المتوقع نزولها ضمن الأيام الفردية من العشرة الأواخر من شهر رمضان الكريم، فستكون له فيها تلبية لكل رغباته، وحلا لكل مشكلاته من دون كد أو تعب، ومغفرة كاملة لما تقدم من ذنبه من دون حساب!، هكذا تشهد بعض الأدعية التى ينصحنا بها بعض رجال الدين، ويتداولها الناس بينهم مثل: «اللهم أدخلنى الجنة بغير حساب ولا سابقة عذاب»، و«اللهم إنى أسألك أن ترزقنى رزقا حلالا واسعا طيبا من غير تعب ولا مشقة ولا ضير ولا نصب إنك على كل شىء قدير»!

تلك هى نفس العقلية التى تقيم الحج كل عام، وتؤدى العمرة ثلاث وأربع مرات فى السنة طلبا للمغفرة، وهم لا يدرون أنهم يتبعون مفهوم «صكوك الغفران» فى القرون الوسطى!، وليعلم كل من أقام فريضة الحج أكثر من مرة أنه مخالف لسنة النبى عليه الصلاة والسلام، الذى أداها مرة واحدة، وليعلموا أيضا مع الذين يؤدون العمرة تكرارا ومرارا أنهم يرتكبون جرائم فى حق الفقراء والمحتاجين الذين لا يجدون قوت يومهم، والمرضى الذين لا يجدون علاجا لهم ولأولادهم من أبناء وطنهم، والمشردين الذين لا يجدون مأوى لهم، والتلاميذ الذين لا يجدون فصولا مناسبة لهم، وأولئك وهؤلاء هم بالملايين.

***
إن المغفرة والرزق لا يهبهما الله سبحانه بمجرد الدعاء فقط، ولكنهما يصيبان من عمل بجد لأن من جد وجد، ولمن عمل على إرضاء الله بالعمل الصالح طوال العام، ولمن أيقظ ضميره لمحاسبة نفسه، ولمن تعهد بعدم تكرار ما أغضب به الله، وبتأدية الزكاة والصدقات، كما أنها ليست ليلة الهبات والعطايا لمن يستحق ومن لا يستحق، فهى ليلة الحكم والتقدير بالعدل، لأن الله حكيم وعادل فى حكمه، وهذا ما نص عليه سبحانه فى وصفه لليلة القدر: «فيها يفرق كل أمر حكيم، أمرا من عندنا».

وأما التقرب الحقيقى إلى الله، والسعى لطلب المغفرة منه نجده فى الآية الكريمة: «ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفى الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين فى البأساء والضراء وحين البأس ۗ أولئك الذين صدقوا ۖ وأولئك هم المتقون».

وختاما، ليلة القدر (بتسكين الدال) هى الليلة المباركة ذات القدر العظيم لأنه أنزل فيها كتابا ذا قدر، على رسول ذى قدر، وعلى أمة ذات قدر، ولأنه ينزل فيها ملائكة ذو قدر، وهى إذن ليست ليلة القدر (بفتح الدال).

والله أعلم.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved