البحر الأبيض المتوسط (بحيرة إسرائيلية)

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الأربعاء 30 يونيو 2010 - 10:01 ص بتوقيت القاهرة

منذ اللحظة الأولى لفرض الحصار على قطاع غزه، كان واضحا أن إسرائيل تحاول إعلان البحر الأبيض المتوسط «بحيرة إسرائيلية» هى وحدها صاحبة القرار فى من يعبرها قادما أو مغادرا، كما فى ما يختزنه من ثروات من بينها النفط والغاز.

ولأسباب شتى، فيها السياسى وفيها النفسى، تجاهل أهل النظام العربى دلالات هذا القرار الاستثنائى فى خطورته على «الأمن القومى» جميعا، ومفاعيله التى تتجاوز الضغط على «الحكومة المقالة» فى غزه، إلى تكريس أمر واقع جديد يتمثل بتكريس «السيادة الإسرائيلية» على البحر.. علما بأن السيادة فى الجو، مطلقة لطيرانها الحربى وصواريخها، أما البر فمضبوطة حركة «القوى المعادية» لها فيه بالقرارات الدولية وقوات الطوارئ بقبعاتها الزرقاء، كما بمعاهدات الصلح المنفرد، فضلا عن التفوق الإسرائيلى الكاسح.

ولقد تم تمويه السكوت المفجع عن محاصرة المليون ونصف المليون فلسطينى فى ذلك الشريط الضيق من الأرض الفلسطينية، والمسقط عمدا من الذاكرة العربية الرسمية بالاعتراض على «انشقاق» الحكومة عن «السلطة»، و«استقلالها» بالقطاع الفقير، متحدية «الإرادة الدولية»، بدءا بإسرائيل مرورا بغالبية أهل النظام العربى المعززة بالتأييد الغربى ــ بل الدولى ــ المفتوح تحت قيادة الإدارة الأمريكية.
فجر الاثنين 31/5/2010، وعبر الغارة العسكرية الإسرائيلية، بقوات المظليين والمدمرات والزوارق الحربية على «قافلة الحرية» المقبلة من تركيا وعلى ظهر سفنها المدنية بضع مئات من المتطوعين متعددى الجنسية، غالبيتهم من الأتراك، وبينهم عشرات من الأوروبيين فيهم واحد من حملة جائزة نوبل، وأعداد من المواطنين من لبنان وسوريا والأردن ومصر، أكدت إسرائيل ــ بقوة نيرانها وبتعمدها قتل عشرة من هؤلاء الآتين لنجدة غزه ببعض المؤن والحليب ولعب الأطفال ـــ أنها صاحبة السيادة المطلقة على هذا البحر الذى كان بعض الحالمين العرب قد رأوه «بحيرة عربية» ذات يوم مضى.

وإذا كانت تركيا، شعبا وحكومة، قد رأت فى هذه الحملة العسكرية على متطوعين عزل وبواخر شحن وركاب لا يحمل أى منهم سلاحا، «جريمة خطيرة» ارتكبتها إسرائيل عمدا فى «المياه الدولية»، فإن غالبية أهل النظام العربى انصرفوا إلى محاصرة التداعيات المحتملة لهذه الجريمة الإسرائيلية الجديدة على مجتمعاتهم المغيبة والمخدرة بالترهيب والترغيب، مكتفين بقراءة الفاتحة على أرواح الشهداء الذين غامرت حكومة أردوغان المتطرف الشرس بإرسالهم لاقتناص الزعامة فى دنيا العرب والمسلمين بذريعة فك الحصار عن الشعب الفلسطينى المحاصر فى غزة.

كان أردوغان قد تحول من صديق لزملائه أصدقاء الغرب من أهل النظام العربى، إلى مشاغب مزعج إثر مواجهته الرئيس الإسرائيلى شيمون بيريز فى منتدى دافوس، فى سويسرا، قبل شهور.. أما بعد مواقفه المستفزة الأخيرة التى أثارت انزعاج واشنطن، وقلق أهل النظام العربى، وريبة إسرائيل، فكان لابد من ردعه قبل أن يستفحل خطره باستغلال عواطف الجماهير العربية التى لا تجد زعيما مؤهلا لقيادتها، وقد تتخذ منه «القائد» وتطالب قياداتها بأن تتخذ منه «القدوة»!.

من وجهة نظر أهل النظام العربى فإن إسرائيل قامت ــ بالنيابة عنهم ــ بهجوم استباقى على تركيا بشخص أردوغان وحكومته، يمكن اعتباره أقوى دفاع عنهم وعن أنظمتهم العاجزة عن مواجهة إسرائيل، (هذا فى حال حسن النية وابتداع الأعذار للتحلل من الواجب القومى، بل الإنسانى).. أو المتواطئة معها تحت الرعاية الأمريكية التى تريد هدوءا كاملا فى المشرق العربى للتفرغ لمسئولياتها الخطيرة فى «تحرير» أفغانستان من أهلها بعد إنجازها الباهر فى العراق!

لا يهم أن إسرائيل قد فرضت أمرا واقعا جديدا بفرضها الحصار، العسكرى بعد السياسى، على الوطن العربى الكبير، من المحيط إلى الخليج، وبعده أو معه العالم الإسلامى من تركيا إلى إندونيسيا ومن إيران إلى بنجلاديش!

لقد تبدت إسرائيل فى حجم العالم كله، بشرقه وغربه، بشماله وجنوبه، تقرر فيلتزم الجميع بقرارها: الدول الكبرى، والأمم المتحدة ومن ضمنها مجلس الأمن الذى اكتفى ببيان رثاء لشهداء «قافلة الحرية»، مشيرا إلى تحقيق دولى سرعان ما عطلته الدول الكبرى بالقيادة الأمريكية، بعدما تنازلت حكومة نتنياهو فقررت إجراء فحص «ذى مصداقية».. وكفى الله المطالبين بالعدالة شر القتال!

من باب تسجيل الوقائع لابد من الإشارة إلى أن دول الاتحاد الأوروبى التى كانت تتفجر غضبا، وبين الضحايا بعض من رعاياها، سرعان ما هدأت منعطفة من السياسة إلى الإنسانيات، ثم ارتدت إلى لوم تركيا التى «بالغت فى تعاطفها ربما تحت تأثير النزعة الإسلامية على حكومتها».

وكانت تلك حجة إضافية لتبرير التحايل الأوروبى الدائم على رفض تركيا (الإسلامية) فى الاتحاد الأوروبى (الذى كان فى الأصل مسيحيا ويخشى على انسجامه الدينى ــ الفكرى ــ الثقافى من اجتياح التطرف الدينى)، على ما يقول بعض كبار المسئولين الغربيين، والأخطر: بعض مفكرى اليمين المتطرف فى الغرب الأوروبى!

ومن دون معلومات موثقة، وبالاستناد إلى وقائع ثابتة فى الماضى، يمكن تلمس آثار اليد الإسرائيلية، والغربية عموما، فى هذه الاندفاعة العسكرية الجديدة والأوسع مدى التى لجأ إليها حزب العمال الكردى على الحدود التركية ــ العراقية.

وليس من المجازفة القول إن لحزب مسعود البرازانى فى كردستان العراق دوره فى هذه الحرب الجديدة التى تريد إلزام تركيا بموقع الدفاع، فإذا كان الإسلام يجمع بين الترك والكرد فان السلطة تفرق بينهما إلى حد الحرب.. ولعل الزيارة الاضطرارية التى قام بها «رئيس إقليم كردستان العراقى» إلى تركيا تحمل مضمون التنصل من المسئولية عن تشجيع المهاجمين، وبالذات عن توقيت هجماتهم عليها بينما دماء المتطوعين الأتراك الذاهبين لنجدة غزه لاتزال تصبغ بالأحمر البحر الأبيض الذى كان «إسلاميا» ذات يوم.

واضح أن المحاولات الإسرائيلية، التى تحظى بشىء من التأييد الأوروبى والصمت الأمريكى «الإيجابى» تستهدف التشهير بحزب العدالة والتنمية الحاكم فى تركيا من خلال إظهاره بإحدى صورتين:
المتعصب لإسلامه بما يمنع إسباغ الهوية الأوروبية (المسيحية) عليه. وبما يفيد فى تهييج الجيش التركى حارس العلمانية ضده.
وفى الوقت عينه: الشوفينى، بدليل عنصريته تجاه الأكراد، وهم مسلمون.

وبالتالى، يمكن إعادة تظهير الحملة التركية على إسرائيل من ضمن منطق العداء للغرب عموما، والتعصب الدينى الذى يجعل حزب أردوغان عدوا للمسيحية واليهودية (وحتى الإسلام المدجن) فى آن معا.

كان القرار الإسرائيلى، المعزز بالتأييد الأمريكى، واضحا ومحددا: «لا يجوز أن يتم التهاون مع المبادرات التركية المتعددة، سواء بالانفتاح على سوريا إلى حد إلغاء التأشيرات وفتح الحدود فى الاتجاهين، أو «بتفهم» الموقف الإيرانى والاستعداد للقيام ــ مع فنزويلا ــ بدور الوسيط فى مسألة المفاعل النووى، إلى حد الاعتراض القوى فى مجلس الأمن الدولى على القرار الأمريكى المسوق جيدا مع حلفائها الأوروبيين ومع الصديق الروسى المستجد والمتردد فى انتظار عرض اللحظة الأخيرة، ومع «الشريك» الصينى الذى يوازن بين مصالحه وبين تاريخه العقائدى فتغلب المصالح..».

«إن تم التهاون مع المبادرة التركية لكسر الحصار على غزه فلسوف يعانى أهل النظام العربى جميعا من ارتداداته بما يتجاوز الحرج الشديد إلى حد تهديد بعضهم بالسقوط».

«ثم إن السلطة المتهالكة أصلا، فى رام الله، سوف تسقط، ولابد من نجدة سريعة لها، تخرجها من صورة المتواطئ على أهلها..».
وكان التدخل مع تركيا لكى تستقبل محمود عباس وأركانه «استقبال رئيس دولة»، حرصا على كرامة فلسطين وشعبها فى مختلف بقاع انتشاره، وليس فى غزه فقط.. واختير للزيارة موعد له دلالاته: خلال الرحلة إلى واشنطن للقاء الرئيس الأمريكى الأسمر ذى الجذر الإسلامى، باراك أوباما..

كذلك كان التدخل مع مصر لفتح معبر رفح، تخفيفا للضغط الشعبى عليها، كما على «السلطة» فى رام الله.

وطفت على سطح العمل السياسى فى المنطقة قاعدة مستجدة مفادها: إذا كانت فلسطين المهددة بالتذويب المنهجى على أيدى الاحتلال الإسرائيلى المعزز بالتأييد الغربى المفتوح، تنذر بتوحد المسلمين فلابد من حواجز تمنعهم من «التورط» والاندفاع فى هذا الطريق!.

وبالتالى: ممنوع اقتراب مصر من تركيا على قاعدة فلسطين وممنوع تطور التقارب التركى ــ الإيرانى على قاعدة فلسطين، ولابد من مبادرة عربية ما، تمتص النقمة من دون أن تترك أثرا ينذر بتحول سياسى جدا. وهكذا، واسنتقاذا للنظام العربى وأهله، لا بأس بزيارة «غير رسمية» يقوم بها الأمين العام لجامعة الدول العربية إلى قطاع غزه.. ولا بأس من فتحة صغيرة فى سور الحصار تبادر إليها إسرائيل، لامتصاص الحملة الغربية عليها، وكذلك لتخفيف الضغط على النظام العربى، طالما أن الطرفين فى الموقع نفسه.

ليس الحصار الإسرائيلى لغزة إلا العنوان لفرض أمر واقع جديد يمكن تلخيصه بعبارة محددة: إن البحر الأبيض المتوسط هو ــ بعد اليوم ــ بحيرة إسرائيلية، وهى وحدها صاحبة السلطة فيه، وعليه، لا يعبره إلا من لا تشك فى مقصده أو فى هدفه من وراء عبوره.

وواضح أنها من أجل فرض هذا الأمر الواقع قد استغلت الخصومة بين تركيا والحكم فى قبرص الذى ذهب فى مجاملة إسرائيل إلى حد العمل فى خدمتها، برفض استقبال سفن النجدة الذاهبة إلى غزة حتى لو ثبت أنها لا تحمل غير الأدوية والمؤن ولعب الأطفال.

وآخر ما حررته الإرادة الإسرائيلية لتوكيد سيطرتها الكاملة على المتوسط، كبحيرة من أملاكها أو مشاعاتها لا فرق، إعلانها عن اكتشاف حقول غنية بالنفط والغاز فيه وعلى مبعدة نحو مائة كيلومتر عن البر الفلسطينى المحتل، وتعاقدها مع شركات دولية لاستغلال هذه الثروة الهائلة التى تكفيها لمدة ثلاثين سنة.

وباعتبار لبنان معنيا بهذا الكشف الذى يحاذى، فى جانب منه، مياهه الإقليمية، فقد باشر المسئولون فيه العراك من حول جلد الدب قبل اصطياده.. وشجر الخلاف بين أهل الطبقة السياسية فيه حول توزيع امتيازات شركات الدراسة وبعدها الاستثمار، بينما إسرائيل أعلنت وضع يدها على البحر جميعا، تاركة للعرب ــ مرة أخرى ــ التحسر على حكم «دول» لم يستطيعوا حمايتها، ومع ذلك فهم متشبثون بالبقاء فوق سدة السلطة فيها حتى.. إلى أجل الآجلين!

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved