قصر المنيرة

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: السبت 30 يونيو 2018 - 9:45 م بتوقيت القاهرة

يقال إن آخر من سكن القصر سيدة تدعى منيرة وقد أعطت اسمها للحى كله، ويقال أيضا فى رواية أخرىــ قد تكون الأقرب إلى الحقيقةــ إن الحى عرف بالمنيرة لأنه شهد عام 1873 احتفالات فخيمة استمرت أربعين يوما، وأطلقت الصواريخ، بمناسبة زواج أربعة من أبناء الخديوى اسماعيل، فيما أطلق عليه «أفراح الأنجال«. استقبل القصر نفسه، الواقع فى شارع الشيخ على يوسف، مبعوث السلطان العثمانى عبدالحميد الثانى، سنة 1892، عند تنصيب عباس حلمى الثانى، آخر خديوى لمصر والسودان. ازدانت حدائقه الغناء التى لاتزال آثارها باقية، تحيط بالمبنى العتيق الذى يحوى بين جدرانه حاليا أهم مكتبة ومطبعة حول العالم، متخصصة فى علم المصريات، ألا وهى مكتبة المعهد الفرنسى للآثار الشرقية. المكتبة المفتوحة للباحثين تضم تسعين ألف كتاب بلغات مختلفة منها العربية، أما المطبعة فتقوم بإصدار عشرين عنوانا جديدا كل سنة، بالإضافة إلى عشرين آخرين يتم إعادة طبعهم، 60% من الأعمال تهتم بالحضارة الفرعونية، والباقى يتعلق غالبا بدراسات قبطية وإسلامية.
***
بهو فسيح، صالونات فخمة، سجاجيد يدوية معلقة على الجدران، ثريات قديمة تتدلى من الأسقف العالية... ثم سلم خشبى فسيح يوصلك إلى حجرات المكتبة السبعة عشر التى تقودك كل واحدة منها إلى أخرى وكأنك فى متاهات بيت جحا. نسخ أصلية من مجلدات «وصف مصر« تتوسط القاعة، فى إشارة لوجود المزيد من الكتب النادرة ــحوالى ألف كتابــ محفوظة بعناية لدى القائمين على المعهد الذى أنشأ فى عام 1880، فكان مقره الأول إلى جوار المتحف المصرى بشارع الأنتكخانة، قبل أن ينتقل إلى هذا المبنى الجميل عام 1907.
على أرفف مركز البيع بالدور الأول كتب للسيوطى والمقريزى وغيرهم، إلى جانب مؤلفات تتناول بالتفصيل تاريخ مصر فى حقبات مختلفة سواء من خلال وصف المعابد أو أحوال التجار والصناع أو بيوت رحل سكانها الأصليون وتوافد عليها البشر، مثلما المنزل الكبير الذى نقف فيه.
***
تسمع صوت خطواتك على خشب الأرضيات، ولا شيء غيرها، فكل من فى المكان يحترم تاريخه ويعرفه تقريبا عن غيب، بل وبعضهم كان والده أو أحد أقاربه يعمل هنا مثل عبدالحميد أحمد الذى بدأ مشواره مع ترميم الكتب، بمعاونة أبيه، قبل خمسة وثلاثين عاما. عمل أيضا فى مكتبة أخرى غاية فى الأهمية، وهى مكتبة معهد الدومنيكان للدراسات الشرقية بالظاهر، التى تمتلك مجموعة ضخمة حول الإسلام وحضارته وعلومه.
وقف عبدالحميد أحمد يرمم ألبوم صور لحفر ترعة الاسماعيلية يرجع تاريخه لعامى 1871ــ1872، وعلى بعد خطوات منه زميلة شابة ترمم وتجلد مجموعة صور خاصة بعنوان تذكار زيارة ملك إيطاليا لمصر سنة 1933، أتى بها أحدهم طلبا للمعونة التقنية للعاملين بالمعهد الذى يمتلك أرشيفا ضخما ومعملا لتحديد تاريخ أى مادة حية يتم العثور عليها فى المواقع الأثرية، وهو الوحيد من نوعه فى مصر.
فى القاعات المجاورة ذات الأسقف الخشبية والمراوح المعدنية الضخمة يوجد فريق الطباعة والإخراج والمراجعة، إلى ما غير ذلك، تحيط بهم صور من سبقوهم، كما أن هنالك متحف للذكريات تصطف فيه واحدة تلو الأخرى ماكينات وأدوات الطباعة منذ عصر الرصاص، عندما كانت الأحرف الهيروغليفية تنقش وتصب يدويا. يتم صيانة الماكينات بشكل دورى، ويمكن تشغيلها إلى الآن، بعد أن استعيض عنها جميعا بأخرى رقمية. نتعرف على مراحل تصنيع الكتاب المختلفة، منذ أن كان إنجاز الصفحة الواحدة قد يستغرق خمسة أياما. نعشق الجو والرائحة ومدى الاهتمام بتاريخ المكان ومكانته العلمية، ونتمنى أن نرى غيره من المكتبات بهذا الرقى، بدلا من أروقة بعض الجهات الحكومية التى تطغى عليها رائحة المراحيض.
نتعرف على العديد من ملامح الثقافة المصرية وعلى شخصيات تظل للكثيرين مجرد أسماء لناس سكنت القصر تباعا: الأميرة توحيدة إلهامى، وأمينة هانم إلهامى زوجة الخديوى توفيق، ثم ابنتها الأميرة نعمة الله، ومن بعدها أخو الخديوى توفيق الأمير إبراهيم حلمى باشا، وهكذا تروح وتجيء الأيام، ويصبح المسئول عن معهد الآثار الشرقية ــ إميل شاسيناــ هو صاحب فكرة التوسعات والمطبعة، ويتحول مصير البيت بمن فيه، ويدخل عصرا آخر.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved