هندسة الذكريات

نيفين مسعد
نيفين مسعد

آخر تحديث: الخميس 30 يونيو 2022 - 7:30 م بتوقيت القاهرة

في كل المرات التي جمعتها به الصدف مع زملاء الدفعة أو الأصدقاء المشتركين، كانت تتعمّد أن تجلس في أبعد نقطة ممكنة عنه لتقطع أي اتصال محتمل وتحجب حتى الهواء المار بينها وبينه، فهذا الجرح الغائر الذي تركه في داخلها من عشرات السنين مازال ينزف نقطة نقطة حتى لتعجَب كيف أنه لم يفض بعد من جوانحها. أما اليوم.. اليوم فإن سلوكها قد اختلف، اختارت متعمّدة أن تجرّ مقعدها وتضع نفسها إلى جواره فالكل مشغولٌ عنه وهو وحده في الزاوية لا أنيس ولا جليس. تكوّم حبها القديم حيث هو وراح يراقب طقوس حفل الزفاف شديد البهرجة: العروسان يشقّان دائرة من الضباب فتنطلق الزغاريد على وقع التانجو الأول، قطع الماس المتلئلئة تزغلل العيون وينعكس بريقها على الجدران والكاسات وكل الأشياء، أطباق الشيكولاتة والمكسرات لا تكاد تفرغ حتى تمتلئ بالمزيد. نظراته لا تتسّق أبدًا مع طبيعة المناسبة، ففيها مزيج من الاستغراب والانكسار والخجل. لم تره صاحبتنا من قبل على هذه الحال، ولا كانت على اطلاع دقيق على الأسباب التي جعلته يؤول إلى ما آل إليه، نعم بلَغَها منذ فترة أن صحته تدهورَت بعد رحيل شريكة حياته، لكنها لم تتصوّر أنه كان مرتبطًا بها إلى هذا المدى.. إن جئنا للجدّ هي لم تكن مستعدة من الأصل للتسليم بفكرة أن زواجه من غيرها سببه أن مشاعره تبدّلت نحوها، وكانت على العكس من ذلك تفضّل أن تفسّر هذا التحوّل تفسيرًا مغرضًا لكنه أهون على كرامتها. أراحها قليلًا أن تصفه بالانتهازية وبأنه أدخل في اختيار زواجه بأخرى اعتبارات ترتبط بالعائلة الكبيرة والحي الراقي ونادي الأغنياء والمدرسة وحساب البنك… وكل شيء عدا الحب. أما الآن وهي تراه ذاهلًا عمّا حوله.. مع الناس وليس معهم فإنها فيما يبدو ستكون مضطرة لأن تراجع نفسها، فلا شيء يهّد الإنسان إلا أن يفقد مَن يحب.. فهل كان يحب زوجته؟.
• • •
في الأيام الخوالي كانت معه حديث الكلية والجامعة وحديقة الأورمان وحديقة جروبي وكل الأماكن التي مرّا بها. يتأخّر عن المحاضرة الصباحية فلا يجرؤ أحد على أن يشغل مقعده الشاغر إلى يسارها، وتغيب يومًا أو بعض يوم فيسألونه عنها وتكون إجابته حاضرة. هو الأول على الدفعة وهي الثانية أو العكس فقد كانا يتبادلان المراكز من عام لآخر كما يتبادلان الملازِم والهدايا والمشاعر الحميمة عيني عينك. اتخذا قرارًا مشتركًا بألا يعملا في السلك الجامعي.. كان يغريهما أكثر عالَم المحاماة والقضاء الواقف لأنه عالَم مثير كل يوم فيه أشخاص جدد وتفاصيل أخرى ومفاجآت لا تنتهي ولأن دخله أفضل، فكان خيارهما المشترك هو أن يتسع مكتب واحد لكليهما. أما أن يكون لهما مكتبان منفصلان وعنوانان مختلفان فقد كان هذا هو اختياره وحده. راحت تراقب الأمور وهي تتطور خطوة خطوة. في البداية تباعدَت لقاءاتهما وصار حبل التليفون هو الحبل الوحيد الواصل بينهما، ثم تقطّعت اتصالاتهما التليفونية وصارت جافة وراحت تتخللها فترات صمت وملل، ثم انقطعَت أخباره عنها حتى أنبأها "أولاد الحلال" بأنه تزوَج في حفل كبير كهذا الحفل الذي يحضرانه اليوم. تخيّلت في البداية أنه يمكنها أن تحارب العالم كله لأجله، وعندما كان صوت سميرة سعيد ينطلق شجيًا وهي تقود سيارتها على غير هدى "ياللي اديت لحياتي ف حبك طعم ولون.. مش حاتنازل عنك أبدًا مهما يكون.. مش حاتنازل عنك أبدًا.. مش حاتنازل عنك أبدًا".. كانت تشعر أنها المقصودة بالأغنية. لكن عندما استوعبَت الصدمة وتجاوزَت الموقف أو بدا لها ذلك- انتبهَت إلى طبيعة المهمة المستحيلة التي كانت تطلبها منها سميرة سعيد، فكيف لها ألا تتنازل عنه بالضبط؟ هو تنازَل عنها أما هي فلا. وهكذا تحوّلت دفة معركتها من كونها معركة لأجله إلى كونها معركة مع نفسها، تشاجرَت مشاعرها مع مشاعره وأيامها مع أيامه وذاكرتها مع ذكرياته وصوره وأشيائه، ودربّت نفسها على تجاهله.
• • •
عندما مرّ بهما زميل قديم مشترك كان له دور في لقاءاتهما الأولى قبل أن يشكراه ويدبرّا رأسيهما كما يقول الشوام، بدا واضحًا وضوح الشمس أنه لم يذكر أين التقاه ولا ما هي علاقته به بالضبط، نعم حيّاه وصافحه وجامله وتبادَل معه كلمات محايدة، لكن لم يبدر منه ما يفيد أنه يعرفه. هل تتطوّع وتنعش له ذاكرته؟ ممكن وإلا لماذا جلست من الأصل إلى جواره.. لكن.. لكن كيف تفعل من دون أن تمّر على محطات كثيرة عملَت البدع طوال السنوات الماضية كي تتخطاها بما فيها ومَن فيها؟ هل يمكن أن تقوم بهندسة محسوبة للذكريات فتقدّم المعلومات بالقطّارة لهذا الجالس إلى جوارها، كأن تقول له مثلًا إن هذا المار بهما هو زميل من نفس الدفعة وإنه كان متعثرًا في دراسته دون أي تفاصيل إضافية؟ لم لا.. فكما أن هناك هندسة للمنشآت والچينات قد تكون هناك هندسة أيضًا للذكريات القديمة ووارد التلاعب بأحداثها طالما يوجد سبب مشروع لذلك.. ممم.. إنها ليست متأكدة تمامًا من البعد الأخلاقي لهذا النوع من الهندسة.. فلقد استخدمَت لفظ تلاعب وهو يشرح نفسه بنفسه، أما مسألة المشروعية من عدمها فإنها أزمة في حد ذاتها. ثم مَن أدراها أنه يذكرها جيدًا حتى يثق في معلوماتها "المهندَسَة"؟.. صحيح أن لغته معها فيها شئ من الود لكنه ودود معها لأنه ودود مع النساء.. كل النساء. أما المبرر الأهم لاستبعادها فكرة هندسة الذكريات، أنها في هذه اللحظة بالتحديد وبعد كل هذا العمر الطويل تملك شجاعة الاعتراف بأنها تريد من هذا الجالس إلى جانبها أن يتذكّر زمان وأيام زمان بكل تفاصيلها الحلوة وخباياها، نعم هي تريد ذلك وتراه من حقها.
• • •
اقتربَت منه بكرسيها أكثر فأكثر والتقطَت طرف الخيط بدءًا من مرور زميل الدفعة أمامهما وراحت تنسج بحب شبكة ذكريات ماضيها وماضيه، شبكة أوهى من بيت العنكبوت وقد لا تشرق حتى عليها شمس الغد، فالله وحده أعلم بما ستحتفظ به ذاكرة صاحبنا وما ستنساه، لكن أن تعيش معه الماضي مجددًا وتسترجعه فتلك فرصة لا تأتي كثيرًا. أخذَت تحكي شهرزاد وتحكي ومازال أمامها الليل فتىً كما يقولون.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved