أوزان القوى الإقليمية
مصطفى الفقي
آخر تحديث:
الإثنين 30 يونيو 2025 - 7:05 م
بتوقيت القاهرة
مر إقليم الشرق الأوسط وشرق المتوسط ومنطقة الخليج العربى بظروف صعبة وغير مسبوقة أبرزت إلى حدٍ كبير حجم الأزمات التى تعرضت لها فى الفترة الأخيرة بحيث أصبحت مشكلة دولية كبيرة وليست مجرد أزمة إقليمية محدودة، وإذا بدأنا بالمسلسل الدامى فى المنطقة الذى يبدو فى النهاية نتيجة متوقعة للاحتلال الإسرائيلى الغاشم للأراضى الفلسطينية فسوف ندرك على الفور أن السابع من أكتوبر 2023 إنما هو نتيجة تلقائية وطبيعية لقهر ذلك الاحتلال للشعب الفلسطينى الصامد على كل المستويات، وهو الأمر الذى أدى إلى اتساع دائرة العنف وتحويل غزة إلى منطقة غير قابلة للحياة فى ظروفها الحالية، حيث تتابعت قوافل الشهداء فى أفواج يومية تضم عشرات الألوف من الأطفال والنساء والمدنيين الذين لا يحق قتالهم ولا يمكن نسيان المذابح التى تعرضوا لها والظروف الصعبة لحياة البشر التى يعانون منها دون مغيث إنسانى أو دعم يصل إليهم من الأشقاء والأصدقاء على حد سواء، وإذا كان وقف إطلاق النار فى المواجهة الإيرانية الإسرائيلية الأخيرة يمكن أن ينعكس إيجابيًا على الأوضاع المؤلمة فى غزة إلا أن التعنت الإسرائيلى وجبروت القوة الذى يمثله نموذج نتنياهو بخطاب الكراهية الذى يبثه صباح مساء هو خير دليل على استمرار المعاناة والبعد عن شاطئ الأمان، ولعلى أتأمل مع القارئ أوزان الدول وطبيعة التحولات التى جرت وتأثيرها فى البورصة الإقليمية لأوزان بعض الأطراف ونرصد الشواهد التالية:
أولًا: إن إيران فى المجمل تبدو خاسرة بما جرى لحزب الله فى لبنان من جانب وما حدث فى سوريا من جانب آخر، حيث فقدت طهران حليفًا تابعًا استمتعت بولائه طوال حكم عائلة الأسد، فضلًا عما قامت به إسرائيل بدعم كامل من الولايات المتحدة الأمريكية على نحو أنهت به إلى حدٍ كبير مقومات المشروع النووى للدولة الفارسية، فضلًا عن عشرات الشهداء من الصفوف الأولى للحياة السياسية والمواقع العسكرية والخبرات العلمية الإيرانية، وهنا لابد أن نسجل اعترافًا ضمنيًا بأن إيران قد قاومت وكان لها العديد من ردود الفعل القوية التى يصعب إنكارها، وأن الصواريخ والمسيرات التى بعثت بها إلى إسرائيل قد أدخلت عشرات الألوف من سكانها إلى الملاجئ هربًا من الضربات الإيرانية ولكن ذلك لا يقارن بالطبع بما قام به سلاح الجو الإسرائيلى من دك المعاقل الإيرانية وضرب أعصاب الحياة فى عدد من المواقع الهامة اقتصاديًا وعسكريًا داخل إيران، وقد لعب الرئيس الأمريكى دونالد ترامب دور العراب الأكبر للمواجهة الإيرانية الإسرائيلية منذ بدايتها وتدخل شخصيًا بشكل مباشر فى تفاصيل تطورها حتى خرج الطرفان الإيرانى والإسرائيلى كل منهما مزهوًا بانتصارٍ ينتسب إليه أو قدرة يزعم أنه سجلها على خصمه، والاجتهادات فى كل الحالات مفتوحة ومساحة التطور الإعلامى تسمح باستيعاب كل وجهات النظر خصوصًا أن المواجهات المسلحة لا تترك رابحًا لكنها توزع الخسائر على جميع الأطراف، وهنا يجب أن ندرك أن الإطاحة بالبرنامج النووى الإيرانى ولو مرحليًا هو انتصار وهمى لنتنياهو يزهو به وقد يدفعه إلى الدعوة لانتخابات نيابية مبكرة يعزز بها وضعه السياسى وموقعه فى رئاسة الحكومة الإسرائيلية، ومهما قيل تعليقًا عن هذه المواجهة العسكرية التى استمرت قرابة أسبوعين بين طهران وتل أبيب فإننا يجب أن نسجل بأمانة أنه قد جرى خدش الدولة العبرية والتأثير على مسارها فى ظل كافة الظروف فإيران قد سجلت موقفًا لا يخلو من بطولة ولا يفتقد الشجاعة فى مواجهة أكبر ترسانة عسكرية فى المنطقة، إذ أن الدعم الأمريكى لإسرائيل كان هو الفيصل الحقيقى فى تلك الحرب، وهو المعيار الذى لا يمكن أن يناقشه أحد ويبدو مغمورًا وسط الأحداث، إذ أنه لأول مرة يجرى ضرب إسرائيل فى العمق وإصابة أهداف داخلية على نحو غير مسبوق يؤكد لنا أن أسطورة الجيش الذى لا يقهر وأن الصنم الكبير الذى صنعناه عبر العقود الأخيرة ليس بالصلابة التى نتوهمها ولا بالقوة التى نتخيلها.
ثانيًا: إذا كنّا نتحدث الآن عن إيران الدولة الإسلامية واسعة الأرجاء طويلة التاريخ فإننا نسجل عليها أخطاء عديدة لا يمكن تجاوزها بدءًا بما نسميه تعدد الساحات وتنوع الأذرع التى حاربت بها فى العقود الأربعة الأخيرة فى دول الجوار وفرضت نفسها طرفًا فى الصراعات الدامية والصدامات المتكررة التى بدأت بحزب الله فى لبنان ووصلت إلى جماعة أنصار الله الحوثيين فى اليمن مرورًا بسوريا والعراق حتى أصبحت إيران هى الفزاعة التى يطرحها الغرب فى مواجهة العرب والترك والكرد والقوميات الأخرى فى غرب آسيا والجزيرة العربية ومنطقة الخليج العربى بل وشمال إفريقيا أيضًا، لقد أدت صناعة الأذرع التى انتهجتها إيران إلى فوضى شاملة ظهرت بداياتها منذ اندلاع الثورة الإسلامية فى إيران وسقوط حكم الشاه فى فبراير 1979، ولم يقف الأمر عند هذا الحد إذ سقطت إيران فى خطيئة كبيرة حين قامت بمحاولة ضرب أهداف أمريكية فى منطقة الخليج العربى واقتحمت المجال الجوى لدولة قطر، وحاولت أن تعيث فى أرض الخليج الذى طالما تحمل الكثير من أخطاء إيران وتجاوز عن سيئاتها معه وتدخلها فى شئونه، ومما زاد الطين بلة إقدام البرلمان الإيرانى على استصدار قرار بإغلاق مضيق هرمز ذلك الشريان التجارى والبحرى الهام والذى تعبر منه عشرون بالمائة من ناقلات النفط فى هذه المنطقة الحيوية من العالم.
ولاشك أن إيران قد خسرت باستعدائها المشاعر الخليجية -ولو لبعض الوقت- خلال تصرفاتها الأخيرة، خصوصًا أن دول الخليج والمشرق العربى ومصر وغيرها قد شاركوا جميعًا فى إدانة العدوان الإسرائيلى على إيران منذ بدايته وكان على طهران أن تسعى لكسب ود الأصدقاء بدلًا من أن تضيف دولًا إلى قائمة الخصوم ولو إلى حين، لذلك فإننى أظن أن إيران قد خسرت الكثير ولكنها كسبت فقط ذلك الرضا النسبى المؤقت لرجل البيت الأبيض القوى دونالد ترامب الذى حاول أن ينسب إلى نفسه فضل إنهاء تلك الحرب بين طهران وتل أبيب كما نسب من قبل إلى ذاته التهدئة فى الموقف بين باكستان والهند، وأضيف إلى ذلك أنه هو الذى كرر فى أكثر من حديث أن الولايات المتحدة الأمريكية لا تسعى إلى الإطاحة بالنظام القائم فى طهران لكنها كانت تهدف فقط إلى القضاء على المشروع النووى الإيرانى وإصابته بالعجز على الأقل فى المستقبل.
ثالثًا: أصبح ملحوظًا أن إيران التى خسرت برنامجها النووى هى التى ربحت قبولًا مرحليًا باستمرار نظامها السياسى والكف عن تقويضه، ولاشك أن إيران هى الحالة الأبرز والدولة الأهم فى ذلك الصراع الذى انتهى، ولكننا لا نغفل جانب الأتراك برئاسة الحاكم المفضل لدى ترامب وأعنى به رجب طيب أردوغان، واضعين فى الاعتبار أن تركيا دولة أوروبية آسيوية وبحر متوسطية وشرق أوسطية وعضو فاعل فى حلف الأطلنطى وقوة لا يستهان بها فى المنطقة مع كل من إسرائيل وإيران أيضًا وفى المعادلة عمومًا، وقد خرجت تركيا أيضًا مما جرى رابحة بما فعلته فى سوريا وما كسبته فى الخليج إلى جانب الرضا الأمريكى عن سياساتها فى المنطقة.
.. إننى أظن أن موازين القوى توحى أن دول الخليج رابحة حتى الآن لأن إيران هى دولة صديقة تاريخيًا لكنها لا تخلو فى علاقاتها من مخاوف لا يمكن إنكارها أو تجاهل وجودها. ونحن كعرب نتطلع إلى الجوار الإيرانى والتركى حتى يصبحا صاحبى دور فاعل فى الوصول إلى تسوية دائمة لقضية العرب العادلة والتى لا تغيب عن الأذهان أبدًا وأعنى بها القضية الفلسطينية بكل تداعياتها وتطورات تاريخها والملابسات المحيطة بها.
نقلا عن الإندبدنت عربية