أمريكا وإيران.. كلاكيت ثاني مرة
بشير عبد الفتاح
آخر تحديث:
الإثنين 30 يونيو 2025 - 6:55 م
بتوقيت القاهرة
فى مطلع يناير2020، تم اغتيال قائد فيلق القدس الإيرانى قاسم سليمانى، إثر غارة أمريكية، استهدفت موكبه قرب مطار بغداد. وبعدها بخمسة أيام، شن الحرس الثورى هجومًا انتقاميًا على قاعدتى عين الأسد، وأربيل، الأمريكيتين غربى بغداد، باثنى عشرة صاروخا أرض - أرض، من طرازى «قيام»، و«ذوالفقار». وهو الهجوم، الذى تم اعتباره، فى حينها، بمثابة أول ضربة صاروخية باليستية إيرانية مباشرة، تستهدف المصالح والأصول العسكرية الأمريكية، بالمنطقة، منذ الحرب العالمية الثانية.
مساء الثالث والعشرين من يونيو المنقضى، وبعد يومين فقط على الاستهداف الأمريكى لأهم ثلاث منشآت نووية إيرانية، فى فوردو، أصفهان، ونطنز. والذى يُعد العمل العسكرى الأمريكى الأكثر مباشرةً وتأثيرًا داخل العمق الإيرانى، منذ عام 1979؛ فيما ادعت واشنطن وتل أبيب أنه قوض طموحات طهران الرامية إلى إنتاج القنبلة النووية فى زمن قياسى. أعلنت إيران انطلاق ردها على ذلك العمل العدوانى، عبر قصف قاعدة العديد الجوية الأمريكية فى قطر، وهى أكبر قاعدة أمريكية فى الشرق الأوسط، حيث يتمركز بها نحو عشرة آلاف جندى أمريكى.
مثلما جاء الرد الإيرانى على استهداف، قاسم سليمانى، ورفاقه، مسرحيًا وغير متناسب؛ إذ كان مرتبا، بشكل مسبق، مع الأمريكيين والعراقيين، تراءى رد طهران الأخير على القاعدة الأمريكية بقطر، منسقا مع الجانبين الأمريكى والقطرى. فمنذ بداية المواجهات، لم تتوارَ إشارات التنسيق المتبادل بين الخصوم. ففى حين انبرت واشنطن وتل أبيب فى تأكيد نجاح الهجوم الأمريكى على المنشآت النووية الإيرانية، فى إجهاض تطلعات طهران النووية، التى جعلتها قاب قوسين أو أدنى من إنتاج السلاح النووى؛ تزعم أوساط إيرانية أنها استبقت الهجوم المعروف سلفًا، بنقل اليورانيوم المخصب، واليورانيوم عالى التخصيب، من مستودعات منشأة فوردو المحصنة، إلى مواقع أخرى آمنة وغير مُعلنة.
لطالما تهافت المسئولون السياسيون والعسكريون الإيرانيون فى إطلاق التهديدات برد مروع على الهجمات الأمريكية؛ يثلج صدور الإيرانيين، ويشعر الإسرائيليين والأمريكيين بالندم. وذلك انطلاقا من عقيدة ردعية إيرانية، تعتمد نظرية "الهدف مقابل الهدف"، و"الهجوم مقابل الهجوم". إذ تم تكليف المؤسسات المختصة بتقييم حجم الأضرار الناجمة عن الهجوم الأمريكى، والاطلاع على تقارير هيئة الطاقة الذرية الإيرانية حول مستوى التدمير، الذى لحق بالبنية التحتية النووية. فضلا عن تلقى تقرير عسكرى مفصل عن مسار الهجوم الأمريكى، نقاط انطلاقه وآلية تنفيذه. تمهيدا لصياغة رد محسوب، يتناسب مع حجم الخسائر، يراعى مصالح البلاد العليا، يتجاوز حدود التحرك الانفعالى، ليفرض معادلة ردع جديدة.
لكن المفاجأة الصادمة تجلت فى رد إيرانى سينمائى هزيل، ما إن تبناه الحرس الثورى، حتى اعتبره المجلس الأعلى للأمن القومى، ردا ملائما على العدوان الأمريكى الوقح. ورغم موافقة البرلمان على توصية بإغلاق مضيق هرمز، مع بحث أخرى بتعليق تعاون طهران مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، تجنب المرشد الخوض فى هكذا مغامرات. كما أبقى وكلاء إيران المكلومين خارج معادلة النزال. ورغم أن الردود الإيرانية على الهجومين الأمريكيين مطلع عام2020، ومنتصف الشهر المنصرم، قد أتت بالأصالة، وليس بالوكالة؛ أملا فى استعادة صدقية الردع الإيرانى المتهاوى فى مواجهة الخصوم والأعداء فإنها بقيت خافتة، رمزية، وغير متناسبة.
فبادئ ذى بدء، استبقت، قطر، الهجوم الإيرانى بإغلاق مجالها الجوى، فيما أكدت مصادر أمريكية إخطار طهران المسبق لكل من الدوحة وواشنطن بالضربة. وأن البيت الأبيض ووزارة الدفاع استعدا للهجوم الإيرانى، الذى كانا يتوقعانه واتخذا الإجراءات الاحترازية والأمنية اللازمة لاحتوائه. سواء ما يخص إخلاء قاعدة العديد أو لجهة اتخاذ الإجراءات الكفيلة بضمان سلامة العاملين بها من منتسبى القوات القطرية والصديقة. وبينما أعلن مجلس الأمن القومى الإيرانى خلو هجمته الصاروخية ضد القاعدة من أى تهديد أو خطر على الدول الصديقة والشقيقة، لا سيما قطر وشعبها؛ أكد مسئولون أمريكيون عدم تُسجيل أى إصابات فى صفوف القوات الأمريكية. إذ لم تحقق الصواريخ الإيرانية إصابة مباشرة لقاعدة العديد، بعدما تمكنت الدفاعات الجوية القطرية من اعتراض 18 صاروخًا من أصل 19 أطلقتها إيران. فى حين سقط صاروخ واحد بمحيط القاعدة، دون أن يتسبب فى أية خسائر بشرية أو مادية تُذكر. الأمر، الذى دفع الرئيس الأمريكى للسخرية من الهجوم الصاروخى الإيرانى، واصفًا إياه بالباهت، معبرًا عن شكره لطهران، جراء إعطائها إشعار مسبق، حال دون وقوع أية خسائر بشرية أو مادية، على أى مستوى. معربا عن أمله فى تخلص الإيرانيين من رغباتهم الملحة فى الانتقام، وألا يتبقى بداخلهم مزيد من الكراهية مستقبلًا.
خلافًا لردها على مقتل، سليمانى، فى العراق، عام 2020، فقدت طهران قسطا من التعاطف العربى والإسلامى معها، عقب محاولتها استهداف قاعدة العديد الأمريكية بقطر، مؤخرًا. فعلاوة على الاستياء القطرى الخجول، أدان أمين عام مجلس التعاون الخليجى تلك المحاولة، بأشد العبارات، ودعا إلى اتخاذ خطوات فاعلة لردع التصرفات الإيرانية غير المسئولة. فيما أعرب الأمين العام لجامعة الدول العربية عن التضامن التام مع قطر إزاء ما تعرضت له من اعتداء إيرانى سافر على سيادتها.
كأننا بطهران وقد رضخت للتحذيرات الأمريكية بعدم الرد، مخافة أن تتلقى عقابًا أمريكيًا أشد وطأة وأكثر دقة. وبينما اعتبر رئيس مجلس النواب الأمريكى الضربة الأمريكية ترجمة لسياسة «أمريكا أولًا» من خلال القوة؛ ناشد، ترامب، الإيرانيين تجنب خطأ الرد، مع الانخراط فى مفاوضات لإحلال السلام. بعد تحييد وكلاء طهران فى المنطقة، وإسقاط نظام الأسد، شنت إسرائيل خلال الفترة من 12 إلى 24 يونيو، المنقضى، سلسلة من الضربات، التى ألحقت أضرارًا بالمنشآت النووية ومواقع الصواريخ الإيرانية. كما دمرت مستودعات للغاز، وقضت على عشرات العلماء النوويين، كبار مسئولى النخبة القيادية، ومئات المدنيين. الأمر، الذى فضح هشاشة استراتيجية الردع الإيرانية، ووضع نظام طهران فى مأزق وجودى ما بين خيارا لاستسلام أو التصعيد الخطير، الذى قد يؤدى إلى مزيد من العزلة والانهيار الداخلى. ونتيجة لذلك، اضطر الولى الفقيه إلى تجرع كأس السم للمرة الثانية، بعد اثنى عشر يوما من المواجهات مع الشيطانين الأصغر والأكبر، إسرائيل وأمريكا؛ رغبا فى استبقاء الدولة واستنقاذ النظام. فبعدما نجح كل من، نتنياهو، وترامب، فى استثمار نتائج الحرب على إيران، لترميم شعبيتهما المهترئة، هرع النظام الإيرانى، إلى توظيف ورقة "الالتفاف حول العلم" من أجل حشد التأييد الجماهيرى، والترويج لسردية الصمود، معتمدا على نجاح منظوماته الصاروخية، فى اختراق منظومات الدفاع الجوى الإسرائيلية وحبس الإسرائيليين فى الملاجئ. وبينما حاولت إيران الزعم أنها كانت صاحبة آخر ضربة صاروخية موجعة ضد إسرائيل، رغم إعلان وقف إطلاق النار، لتبدو كمن أجبر الأخيرة إلى الإلحاح فى طلب إنهاء المواجهات. جاء تعهد جيش الاحتلال برد قاسٍ على ما اعتبره خرقًا إيرانيًا، ليجبر نظام طهران على تكرار التبرؤ من هذا الفعل، عساه ينجو من الرد الانتقامى الإسرائيلى المُحرج.
عقب إعلان ترامب، فجر يوم 24 يونيو المنقضى، وقفًا أبديًا وغير محدود لحرب الاثنى عشر يومًا، تبارى أطرافها الثلاثة فى الاحتفاء بالانتصار. فمن جانبه، أكد، نتنياهو تحقيق إسرائيل أهدافها من الغارات والعمليات النوعية داخل إيران، بعدما تخلصت من مخاطرها وتهديداتها الوجودية، المتمثلة فى امتلاك وتطوير قدرات نووية وصاروخية، تستهدف محو إسرائيل من الوجود. وبعدما تفاخر، ترامب، بإجهاز ضربته، غير المسبوقة، على البرنامج النووى الإيرانى؛ أكد نائبه، فانس، أن العالم سيغدو أفضل بكثير، بعد تدمير ذلك البرنامج، ومنع إيران من امتلاك وشيك للسلاح النووى.
أما نظام طهران فزعم أنه من فرض وقفًا لإطلاق النار على إسرائيل وأمريكا، وأجبرهما على المطالبة به؛ بعدما نجحت صواريخه الدقيقة فى تهديد المراكز الحساسة داخل إسرائيل، وتدمير قاعدة العديد الأمريكية بقطر. مدعيًا أن بقاء الدولة والنظام فى إيران، وصمودهما أمام العدوان الإسرائيلى-الأمريكى الغاشم والمنسق؛ إنما يعد أوج الانتصار. وفى مسعى منه لطمأنة شعبه، وتأكيد صلابة موقفه التفاوضى؛ أعلن اعتزامه مواصلة تطوير قدراته النووية والصاروخية، التى فشل المعتدون فى الإجهاز عليها.