انتفاضة القدس: الصور والرموز والتداعيات

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الأحد 30 يوليه 2017 - 8:40 م بتوقيت القاهرة

للصور والرموز تأثيراتها العميقة على أى سيناريو محتمل لمستقبل القدس، أحد المفاتيح الكبرى للقضية الفلسطينية.
أفضت النتائج المباشرة للمواجهات، التى خاضها المقدسيون للدفاع عن حرمة المسجد الأقصى مع قوات الاحتلال الإسرائيلى، إلى رفع منسوب ثقة المواطن الفلسطينى العادى فى نفسه وقضيته ومستقبله، فالنصر ممكن إذا ما توافرت الإرادة العامة والجدارة الإنسانية بالتحرير رهنا بالاستعداد لبذل التضحيات.
على عكس تيار الريح السياسى فى العالم العربى أثبت المقدسيون أننا لسنا ضعفاء إلى حد استباحة الحرمات والمقدسات والحقوق دون رادع، وأن إسرائيل ليست قوة خارقة للطبيعة تهبط إجراءاتها كعواصف لا راد لها.
بأى معنى سياسى لحقت بإسرائيل هزيمة موجعة فى صراع الإرادات على مستقبل المدينة المقدسة، لكنها ليست المواجهة الأخيرة.
فى نفس التوقيت صادق «الكنيست» بالقراءة الأولى على مشروع قانون «القدس الموحدة»، يضع شروطا تعجيزية على أى انسحاب منها فى حال التوصل إلى اتفاق تسوية بشأنها.
المعنى خشن وصريح، فإسرائيل غير مستعدة ولا مهيأة لأى تراجع عن خططها بتهويد المدينة المقدسة والمواجهات سوف تطول.
من هنا يكتسب انتصار «انتفاضة القدس» أهميته التاريخية من إثبات حجم الضرر الذى يلحق بإسرائيل، إذا ما تمادت فى سياسات التهويد والتنكيل العنصرى.
فضلا عن أنها وضعت خطا أحمر عربيا فى الهواء، يمنع أى مقايضة على القدس، أو تنازل عنها، وإلا فإن الثمن سوف يكون دمويا.
فى الانتفاضة الجديدة، التى خشيت أطراف دولية وإقليمية عديدة أن تمتد إلى كامل فلسطين، تدفق مئات الألوف إلى محيط الأقصى وصلوا فى الشوارع الموازية دون خشية اعتداءات قوات الاحتلال وجماعات المستوطنين ولا أصوات الرصاص التى دوت فى المكان وأسقطت شهداء.
بدت مشاهد الصلوات منقولة إلى العالم على الهواء مباشرة مهيبة والأصوات ترتفع بنداء «يا ألله».
كانت تلك الصورة الأهم فى المواجهة التى جرت، فهناك قوة غاشمة تغلق المسجد الأقصى لأول مرة منذ خمسين سنة، وتنتهك حرمته ببوابات إلكترونية وكاميرات ذكية، وهذا اعتداء صريح على حقوق العبادة المنصوص عليها فى المواثيق الدولية.
بقدر الإمعان فى الاعتداء على أى قيمة إنسانية وأخلاقية لم يكن ممكنا لأحد أن يبرر لإسرائيل فعلتها.
وبقدر خسارة حرب الصورة تحركت أطراف دولية وإقليمية بدرجات مختلفة لإنقاذ إسرائيل من ورطتها.
لم يكن هناك حل ممكن أمام حساسية قضية الأقصى وقوة الغضب، التى أظهرها المقدسيون، سوى أن تضطر حكومة «بنيامين نتانياهو» لإلغاء كل الإجراءات الأمنية، التى كان متوقعا أن تتبعها إجراءات أخرى أشد وأخطر.
بعد ذلك الإلغاء الاضطرارى دخلت حكومة «نتنياهو» فى منازعات أفضت إلى ممارسة قدر أكبر من العنف ضد المقدسيين المصلين العزل حتى لا يقال ــ فى المزادات العنصرية الداخلية ــ أنها قد هزمت.
الحقائق قالت كلمتها وانتهى الأمر.
الحقيقة الأولى، أن انتفاضة القدس أعادت تعريف القضية الفلسطينية على الوجه الصحيح، قوات احتلال تبطش وشعب أعزل يقاوم.
تلك مسألة أريد طمسها بكلام مراوغ عن إحياء عملية التسوية دون أن تكون هناك عملية ولا تسوية، إلا إذا كان المقصود الإذعان الكامل لما تطلبه إسرائيل من تطبيع اقتصادى واستراتيجى واستخباراتى مع العالم العربى دون عودة أى أرض احتلت عام (١٩٦٧)، أو الاعتراف بأى حقوق فلسطينية منصوص عليها فى قرارات دولية.
هذا هو جوهر ما يطلق عليها «صفقة القرن».
بأى تقدير سياسى تلقت «صفقة القرن» ضربة هائلة على عمودها الفقرى، وعاد من الصعب تسويغها بالتنازلات المجانية التى انطوت عليها.
ذلك يفضى ــ ولو بصورة مؤقتة ــ إلى وقف أى اندفاع كبير فى مشروعات تهويد القدس وفرض الولاية على المسجد الأقصى دون أى أوهام عن أى تراجع.
كما لم يعد ممكنا الكلام عن نقل السفارة الأمريكية إلى القدس المحتلة بذات درجة الاستهتار السابق، الذى أبداه الرئيس الأمريكى «دونالد ترامب» فى حملته الانتخابية.
بتداعيات انتفاضة القدس الكلام كله مرشح لنوبة صمت إلى أجل غير مسمى.
الحقيقة الثانية، تقويض فكرة أريد لها أن تشيع فى السياسات العربية من أن الأولوية الآن فى الإقليم للحرب على الإرهاب الإسلامى، وأن ذلك موضوع تفاهم ممكن مع إسرائيل، دون اعتبار أنها نفسها أحد أسباب عدم الاستقرار وتزكية نزعات التطرف بسياساتها العنصرية، فضلا عما تمارسه من إرهاب دولة مدان بالقوانين الدولية.
بصياغة أخرى فقد تلقت ضربة لا يستهان بها لمشروع دمجها فى الإقليم كأحد مراكزه الرئيسية بعد انتهاء الحرب على «داعش» ووفق الحقائق والخرائط الجديدة، التى قد تقسم بعض الدول العربية بمقتضاها.
تكفى الإشارة إلى تعقيدات طرأت على علاقاتها مع الأردن ــ ثانى دولة عربية وقعت معها معاهدة سلام ــ بعد أن أقدم ضابط أمن بالسفارة الإسرائيلية على قتل مواطنين أردنيين.
طالبت عمان بمحاكمته كمجرم واستقبله «نتنياهو» فى مكتبه كبطل.
الصور المتناقضة جعلت الرأى العام الأردنى طرفا أساسيا فى القضية، بما استدعى بيانا رسميا قال إنه لا عودة للبعثة الدبلوماسية الإسرائيلية قبل محاكمة الضابط القاتل.
التعقيدات المستجدة لا سبيل لتجاهلها، أو القفز فوقها، بأى مدى منظور فى أحاديث «صفقة القرن» المراوغة.
الحقيقة الثالثة، أن هناك وضعا جديدا بالأراضى الفلسطينية المحتلة تفاعلاته فى بداياتها، فقد نشأت واشتدت واستقطبت «انتفاضة القدس» مئات الألوف خارج عباءات الفصائل الرئيسية، كأنه إعلان بالحاجة إلى أطر سياسية جديدة جامعة أكثر أهلية للتحدث باسم القضية الفلسطينية فى لحظة تقرير مصائر.
ذلك مؤشر على تحولات محتملة فى البنية السياسية الفلسطينية.
اكتسبت «انتفاضة القدس» زخمها من عفوية رد الفعل والتنادى العام والشعور الفادح بالخطر، دون دور كبير للفصائل السياسية، باستثناء وقف التنسيق الأمنى الذى أعلنته السلطة الفلسطينية، وهو قرار مؤقت مرهون بإلغاء الإجراءات الإسرائيلية، واستعراضات عسكرية فى غزة لم يكن لها لزوم، فقد شوشت على انتفاضة الصدور المفتوحة التى ألهمت تعاطفا إنسانيا.
شىء ما عميق يحدث فى عمق التفاعلات الفلسطينية لم يتضح حتى الآن مداه ولا الصورة التى سوف يأخذها.
بترجمة سياسية أخرى عكست «انتفاضة القدس» حجم السخط العام على الانقسام الفلسطينى بين رام الله وغزة.
بالوقت نفسه عكست مدى التكاتف الوطنى بين المسيحيين والمسلمين، فقضية عروبة القدس واحدة.
تداخلت أجراس كنيسة القيامة مع أصوات الأذان الذى ارتفع فى محيط الأقصى، وبدا التلاحم كاملا.
هذه رسالة يحتاجها العالم العربى، فالتنوع الدينى قوة والمشترك القومى مسألة مصير.
وقد كان الانكشاف الأخلاقى والعقيدى مزريا للجماعة التى تطلق على نفسها «أنصار بيت المقدس»، قبل أن تبايع «داعش» باسم «ولاية سيناء».
بينما كان يدافع المسيحيون، الذين يستحلون دمهم، عن الأقصى المبارك بدت كل قضيتهم ترويع مجتمعهم واستهداف ضباطه وجنوده.
هذا سقوط نهائى فى اختبار القدس، لكنه لم يكن مفاجئا على أى نحو.
وقد سقطت أطراف سياسية عديدة ونظم حكم مختلفة بدرجات متباينة فى الاختبار نفسه.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved