متاجرنا ومصانعهم!

محمد يوسف
محمد يوسف

آخر تحديث: الثلاثاء 30 يوليه 2019 - 10:50 م بتوقيت القاهرة

لو شاء أحد المهتمين بالأمور الاقتصادية أن يكتشف التناقض الصارخ الذى يعانى منه أى اقتصاد نامٍ، فلن يجد أفضل من عقد مقارنة بسيطة بين أحوال المتاجر وأحوال المصانع داخل هذا الاقتصاد. أما إذا أراد أن يرى هذا التناقض بأم عينيه، فما عليه إلا الذهاب ليلقى نظرة سريعة على أحد المصانع بعد أن ينتهى من تسوقه فى متجر من المتاجر الحديثة التى انتشرت بكثافة فى بلده النامى. وما ستراه عيناه من الفجوة الواسعة بين التطور والتحديث الذى وصلت له المتاجر والمستوى الراكد الذى تعانى منه المصانع، هو أمر يحتاج لتفسير اقتصادى، وهو ما ستعكف عليه الفقرات القادمة.
***
الحقيقة التى لا مراء فيها هى أن النظام الاقتصادى الدولى ساهم ــ وما زال يساهم ــ بدور رئيسى فى تشكيل ظاهرة التخلف والتراجع الاقتصادى التى يعيش فى كنفها معظم دول العالم النامى. فالوضع اللامتكافئ لأى دولة نامية فى هذا النظام الدولى قد فرض عليها قيودا تجارية وتكنولوجية عديدة، وجعلها مجرد طرف تابع، يتأثر بهذا النظام ولا يؤثر فيه. ورغم نصاعة هذه الحقيقة، إلا أنها لا تجد الاهتمام الكافى أثناء تحليل أمراض وأوجاع دول العالم النامى، أو أثناء البحث عن بدائل علاجية لهذه الأمراض والأوجاع، أو حتى فى تقييم ظاهرة التخلف الاقتصادى نفسها.
وللوضع اللامتكافئ للدول النامية فى منظومة الاقتصاد العالمى تجليات عديدة، أبرزها أن هذه الدول قد تجاوزت مكانتها المرسومة لها، من مجرد كونها مصدرا رخيصا للموارد الطبيعية الخام التى تعتمد عليها المصانع المتطورة فى العالم المتقدم؛ لتصبح، فيما بعد، المنفذ الرئيسى لبيع منتجات هذه المصانع. أى إنه تجاوز من سيئ لأسوأ. إذ مع مرور السنوات والعقود والقرون، صارت هذه الدول تمثل السوق الواسع والسهل لتصريف ما ينتجه العالم المتقدم. ذلك أن الموارد الطبيعية التى تمتلكها الدول النامية، والتى كان من الممكن تصنيعها محليا واستخدامها فى إشباع حاجات سكانها بطريقة تنموية، يتم بيعها وتصديرها بشكلها الخام وبمنفعة زهيدة وبأثمان بخسة؛ ثم يعاد استيرادها مُصنعة بأضعاف مضاعفة لقيمتها قبل التصدير. و«الفاقد التنموى» الذى يتحمله اقتصاد الدول النامية من جراء هذا التفريط فى مواردها الناضبة، يعادل تماما حجم «الفائض التنموى» الذى تجنيه اقتصادات الدول المتقدمة من هذه الموارد. ولذلك، فالمنطق الاقتصادى الذى يمكن استخلاصه من ذلك يقول أن مواردك وإمكاناتك إن لم تستخدمها فى تنمية اقتصادك، سيستنزفها غيرك منك، ثم يستخدمها لتنمية اقتصاده هو. فالمعادلة التنموية العالمية إذن ما هى إلا «صراع منافع» حامى الوطيس بين الأطراف المتقدمة والنامية، أو بين أطراف رابحة وأخرى خاسرة؛ وليست «مُباراة ودية» يربح فيها الجميع، كما يحلو للبعض تصويرها!
على كل حال، أدعوك قارئى النابه ألا تتعجل وتتساءل متعجبا عن الجديد فى ذلك الطرح، كونك تعلم أن الجميع يرى ويُعايش هذا الواقع الأليم للدول النامية. فصحيح أن الغالبية تراه وتتعايش معه، لكن هذا التعايش يقف حائلا دون مقاومة هذا الواقع؛ بل لا أبالغ حين أقول إن تعايش كهذا قد ساهم بدور رئيسى فى تكريس واستمرار الواقع غير التنموى لهذه الدول.
دعنى أدلل لك على ذلك بما آلت إليه ظاهرتان مترابطتان ومتقابلتان فى الدول النامية؛ الأولى هى ظاهرة الانتشار الواسع للمتاجر المتطورة؛ والأخرى هى ظاهرة الركود الواضح والتراجع المستمر فى المستوى التنموى للمصانع وعنابر الإنتاج فى هذه الدول.
ألا تلاحظ أن المتاجر الحديثة، أو ما يطلق عليه لفظ «مول»، قد انتشر كالنار فى الهشيم خلال العقود القليلة الماضية فى كل الدول النامية؟! ألم يلفت انتباهك أن بناء هذه المتاجر يكون بدرجة تتشابه ــ لدرجة التطابق ــ مع المتاجر فى الدول المتقدمة؟! بل فى أحيان كثيرة يمكنك أن تجد المتاجر الحديثة فى الدول النامية الرئيسية تتفوق ــ فى تطورها واتساعها وانتشارها ــ على نظيراتها فى الدول المتقدمة. إن جولة سريعة على شبكة الانترنت كفيلة لتجعلك تتأكد بنفسك من هذه الظاهرة، ولترى الطفرة الكبيرة التى شهدها قطاع متاجر التجزئة فى كل الدول النامية بلا استثناء.
قد يتساءل أحدهم مستنكرا: وما المشكلة فى أن تتطور وتنتشر المتاجر الحديثة فى الدول النامية، أو أن تتشابه مع نظيرتها فى الدول المتقدمة؟! ألا يعتبر ذلك من قبيل المحاكاة التنموية المفيدة للدول النامية؟! أو ليست هذه المتاجر تشكل فى مجموعها قطاعا مهما من القطاعات الاقتصادية المولدة للدخل القومى؟!
إن الإجابة عن هذه التساؤلات تستدعى أن أخبرك بالطريقة التى نفاضل بها نحن ـ الاقتصاديين التنمويين ــ بين القطاعات الاقتصادية من حيث قدرتها على توليد الدخل القومى، ومن حيث تسريعها للنمو الاقتصادى. هذه الطريقة، ببساطة، تقارن بين القطاعات والأنشطة الاقتصادية حسب عدد العمالة الماهرة التى توظفها، وحسب الموارد الطبيعية التى تستخدمها، وحسب طبيعة ومصدر الموارد المالية التى تشغلها، وحسب مستوى التكنولوجيا التى تطورها. والقطاع الأكثر توليدا للدخل القومى، والأكثر قدرة على تحقيق النمو الاقتصادى، هو ذلك القطاع الذى يوظف العمالة والموارد الطبيعية والمالية والتكنولوجية أكثر من غيره. وبالاعتماد على هذه الطريقة / المنهجية العلمية، سترى كيف أن قطاع المتاجر الحديثة ــ مقارنة بقطاعى الزراعة والصناعة ــ متواضع القدرة على خلق الوظائف الفنية الماهرة، أو فى استخدام وتطوير وتوطين التكنولوجيا الحديثة. ولو أضفنا لذلك أن الغالبية العظمى من المنتجات المعروضة داخل المتاجر الحديثة ليست محلية المنشأ، وأن شطرا مهما من رءوس أموال هذه المتاجر يملكه الأجانب، فنحن إذن إزاء نشاط اقتصادى يكاد يكون معدوم الأثر التنموى فى الاقتصاد النامى. ولكل ذلك، فعجب القارئ يجب أن يذهب للأسباب الحقيقية التى تجعل هذه المتاجر تتطور بهذه السرعة. ثم يتساءل: من ذا الذى يجنى منافع هذا التطور السريع؟!
***
إذا غضضنا الطرف الآن عن قضية ضعف المساهمة التنموية للمتاجر فى الدول النامية، فكيف نفسر ظاهرة انتشارها فى هذه الدول؟ إن مجرد وجود هذه الظاهرة يدل دلالة قاطعة على أن هذه المتاجر تحقق عوائد كبيرة لملاكها. وطالما أثبتنا ضعف عوائدها التنموية للاقتصاد النامى الذى تنتشر فيه، فيقع علينا عبء إثبات أن ما تحققه من عوائد ينساب ــ هو الآخر ــ خارج هذا الاقتصاد، أو يذهب لثُلة قليلة فى داخله.
إن إثبات هذه الفرضية يقتضى أن ننظر سويا لحال المصانع المقامة فى الدول النامية، ثم نعيد النظر لحالها مقارنةً بأحوال المتاجر فى نفس الدول، ومقارنةً بأحوال المصانع المنتشرة فى الدول المتقدمة.
على أن أقل ما يمكن قوله بعدما نمعن النظر، هو أن مصانع الدول النامية لم تشهد نفس درجة التطور التى شهدتها متاجرها، وأنها ما زالت بعيدة كل البعد عن المستوى الذى وصلت إليه مصانع الدول المتقدمة. فهى ما زالت متهالكة البنى الأساسية، ولا تمتلك القاعدة التكنولوجية الحديثة، ولا تمتلك العمالة الفنية والقادرة على مواكبة التطورات التكنولوجية، وليست لديها تشابكات تنموية مع باقى المصانع العاملة داخل الاقتصاد النامى... إلخ. ولما كانت المصانع والمتاجر يشكلان قطاعين متكاملين، وأن المصنع المتطور يحتاج لمتجر متطور ليُصرّف إنتاجه الواسع من خلاله؛ فيمكننا من ذلك أن نفهم سر التطور الذى شهدته متاجر الدول النامية، حتى تتكامل مع مصانع الدول المتقدمة دون مصانع الدول النامية. ولذلك، ومن دون أن يساورنا أى شك، يمكننا رد التطور الذى حدث فى متاجر الدول النامية لحاجة مصانع الدول المتقدمة لبيع ما تستطيع إنتاجه. إذ من حقائق الاقتصاد الدولى أن المصانع المتقدمة لديها قدرة غير محدودة على الإنتاج، لكن الاقتصاد المتقدم المقام فيه هذه المصانع يعانى من قدرة محدودة على تصريف هذا الإنتاج. فالحل إذن يكمن فى نشر المتاجر المتطورة فى الدول النامية، كى تتمكن من استيعاب ما تنتجه مصانع الدول المتقدمة، ودون أدنى اكتراث بالمغارم التى ستقع على عاتق الاقتصاد النامى.
ولئن كان تطور المتجر يحقق منفعة لملاكه ولمصانع العالم المتقدم، فإن المصنع إذا تطور سيفيد ملاكه، والأهم من ذلك أنه سيفيد الاقتصاد النامى أيما إفادة. لكنه طالما سيزاحم وسينافس مصانع العالم المتقدمة على أرفف المتاجر الحديثة، وطالما سيُضيّق على هذه المصانع «الرئة» الرئيسية التى تتنفس من خلالها؛ فيجب إذن أن ينصرف كل الدعم والتحديث للمتاجر فى الدول النامية؛ أما العقبات المتنوعة (والعقبات التكنولوجية تحديدا)، فتلقى كحجر عثرة فى طريق مصانعها. ولم لا، وقد قلت لك سابقا إن أغلب الاقتصادات النامية مجرد اقتصادات تابعة، تتأثر ولا تؤثر.
***
من خلال المقارنات السابقة للتطورات التى شهدتها كل من المتاجر والمصانع بين الدول النامية والمتقدمة، أردت أن أضع القارئ أمام حقيقة رئيسية فى عالمنا المعاصر. فليس كل تطوير أو تحديث تشاهده عيناه هو من النوعية المفيدة للتنمية الاقتصادية. فلقد رأينا كيف أن تطوير وتحديث المتاجر ونشرها فى الدول النامية ليس من التنمية الاقتصادية فى شىء. وهو بالكاد يطور من مظاهر الحياة فى هذه الدول، ويجعلها تحاكى الطابع المعولم. غير أنها محاكاة عالية التكلفة، وضررها أكبر من نفعها. ولكن مع كل ذلك، لا أريد بهذه المقارنة أن تدعم موقف أولئك الذى يلقون بكل مشكلات العالم النامى على عاتق النظام الاقتصادى الدولى، ويهونون من مسئولية الدول النامية عن استمرارها فى هذا الوضع اللامتكافئ فى المنظومة العالمية. فالعامل الخارجى، مهما بلغت أهميته، لا يجب أن يُنسينا تقصير السياسات الاقتصادية الداخلية فى صناعة التنمية. وإلا، فكيف تغلبت دول النمور الآسيوية ــ ولو جزئيا ــ على هذا العامل الخارجى، وباتت فى وضع يقترب من الندية الدولية؟!
ومن المنطقى، بعد كل ما تقدم من تحليل، أن يعلم صانع السياسة الاقتصادية فى الدول التى تجاهد لتتقدم، أنه بدون المحافظة على الموارد الطبيعية الوطنية، واستخدامها بطريقة تنموية، وبدون تطوير القاعدة الصناعية الوطنية، لتحاكى بها مصانع الدول المتقدمة فى المهارات العمالية وفى تكنولوجيا الإنتاج، وبغير التعاون الإقليمى فيما بين الدول النامية المتقاربة فى درجة التنمية الاقتصادية لمقاومة وضعها اللامتكافئ، فلن يكتب للاقتصاد النمو والازدهار، حتى لو تطور كل ما يمتلكه من متاجر. فمصانع أى دولة هى قلبها النابض. وإذا مرض القلب، خارت قوى الجسد!

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved