أولمبياد طوكيو وإرادة التحدى اليابانية

وليد محمود عبد الناصر
وليد محمود عبد الناصر

آخر تحديث: الجمعة 30 يوليه 2021 - 10:15 م بتوقيت القاهرة

لا شك أن مجرد انطلاق دورة طوكيو للألعاب الرياضية الصيفية منذ أيام فى العاصمة اليابانية، وذلك فى الموعد الجديد المحدد لها بعد تأجيلها منذ صيف 2020 بسبب جائحة «كورونا» التى طالت العالم بأسره، كان فى حد ذاته إنجازا كبيرا يحسب للدولة المضيفة، اليابان، حكومة وشعبا، كما أنه قدم للعالم بأسره دليلا جديدا على حالة متكررة شهدها العالم وكان شاهدا عليها فى أمثلة أخرى سابقة فى التاريخ المعاصر، أى منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، ألا وهى قوة التصميم والإرادة لدى اليابانيين، ومدى مثابرتهم لتحقيق ما يصبون إليه من أهداف فى نهاية المطاف، ومهما كانت التحديات والصعاب والعوائق.
فاليابان التى خرجت من الحرب العالمية الثانية مهزومة ومدمرة تماما، خاصة بعد إلقاء الولايات المتحدة الأمريكية قنبلتين نوويتين على مدينتى هيروشيما وناجازاكى اليابانيتين فى شهر أغسطس من عام 1945، وباتت تلم جراحها وتعمل لاستعادة كبريائها وهيبتها وبناء حياة جديدة تتسم بالأخذ بأسباب التطور والرقى لشعبها، والتى تحمل شعبها الكثير من الظروف المعيشية الصعبة وقام بشد الحزام وقبل طوعا أن يقدم تضحيات فى السنوات الأولى التالية لانتهاء الحرب من أجل التقدم والرفاهية فى المستقبل، تمكنت على مدار عقد كامل من تحقيق طفرة فى إعادة بناء ما تهدم، بل والانطلاق إلى السعى لتحقيق طفرة فى معدلات النمو الاقتصادى، تواكبت مع توجه قوى لتحقيق اختراق نوعى فى تحقيق التنمية الاجتماعية والبشرية، بما فى ذلك الاستثمار المكثف فى الخدمات التعليمية والرعاية الصحية، وهو الأمر الذى تزامن مع منح الأولوية لتخصيص نسب مرتفعة من الدخل القومى لأنشطة البحث العلمى والتطوير التكنولوجى.
وقبل أن يمر عقد آخر على انتهاء الحرب العالمية الثانية كانت اليابان تتقدم لاستضافة أولمبياد 1964 وتحظى بهذا الشرف، فى وقت كانت أيضا قد تحولت، أساسا بفعل عرق وكدِّ أبنائها، من دولة متلقية للمساعدات بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية إلى دولة مانحة للمساعدات ومصدرة للاستثمارات لبقية دول العالم، خاصة فى آسيا، وأكثر تحديدا فى شرق وجنوب شرق آسيا، ولدهشة العالم أجمع آنذاك، نجحت اليابان بامتياز فى الاستعداد فى زمن قياسى لاستضافة الأولمبياد، كما نجحت فى تنظيمها بشكل نموذجى، فقد تم الاستعداد لها من خلال تطوير بنية تحتية على أعلى مستوى بقيت بعد أولمبياد 1964 ليستفيد منها أهل طوكيو وزوارها، وتم توظيف أحدث معطيات التكنولوجيا اليابانية فى ذلك الوقت لخدمة فعاليات الأولمبياد والمشاركين فيها.
وكان أبرز مثال على ذلك هو «قطار الطلقة» الفائق السرعة اليابانى الشهير المعروف فى اللغة اليابانية باسم «الشينكانسن»، والذى ظهر وقتها لأول مرة على صعيد الاستخدام بمناسبة أولمبياد 1964، ومر بأطوار تحول وتحديث متتالية ومتسارعة فى تطورها التكنولوجى، ولكنه استمر حتى الآن واحدا من أكثر النماذج للقطارات فى العالم الذى يجمع ما بين السرعة الفائقة ومعايير الأمان المرتفعة ومعايير الجودة المتميزة.
ولم يكن تحدى تنظيم أولمبياد 2020، والتى تأجلت إلى 2021، بأى حال من الأحوال، أقل ضخامة من تنظيم أولمبياد 1964، بل كان أكبر بكثير. فصحيح أن اليابان تقدمت كثيرا فى عام 2021 مقارنة بعام 1964، ولكن الصحيح أيضا أن التحدى هذه المرة كان غير مسبوق فى التاريخ المعاصر للبشرية من الناحية النوعية والكيفية. فهذه المرة كان التحدى عالميا، كما كان متصلا بالصحة العامة، وإن كان له تداعيات خطيرة أيضا لا تقل أهمية على جميع الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية عموما، سواء على المستوى الدولى أو داخل كل دولة، مهما كانت درجة تقدمها أو ثرائها، فالجميع بلا استثناء تأثر وتضرر، بدرجة أو بأخرى.
كما كانت هناك أصوات مسموعة عبر العالم تدعو إلى تأجيل الأولمبياد مرة أخرى بسبب استمرار الوباء، ولكن الحكومة اليابانية، على المستوى المركزى كما على مستوى محافظة طوكيو، أبت هذه المرة إلا أن تصر على إبقاء موعد 2021 دون تغيير، بما استلزمه ذلك من اتخاذ حزمة من الإجراءات الاحترازية المشددة بهدف حماية المشاركين فى الأولمبياد وحماية الشعب اليابانى على حد سواء من مخاطر انتشار الوباء من جديد بسبب الأولمبياد، وللبرهنة على قدرة اليابان على توفير أعلى معدلات الأمان والتأمين اللازمة فى ظل هذه الظروف الاستثنائية التى يمر بها العالم بأسره.
وقد استعدت اليابان على أعلى مستوى هذه المرة ايضا، كما كان الحال فى عام 1964، لاستضافة الأولمبياد الصيفية، وقد أتيحت لى فرصة زيارة العاصمة اليابانية طوكيو فى نهايات عام 2019، ورأيت حجم العمل، صباحا ومساءً، الذى قام به الشعب اليابانى بكل جد واجتهاد فى البنية التحتية استعدادا للأولمبياد، وبما يبقى أيضا بعدها لسكان طوكيو والزائرين لها، وخلال نفس الزيارة أتيحت لى فرصة اللقاء مع السيدة يوريكو كويكى، محافظة طوكيو، التى كانت فخورة بما تحقق على أرض الواقع من بناء وتعمير، وصحيح أن الأولمبياد تأجلت لعام كامل، ولكن طوكيو كانت مستعدة وكانت على الموعد وعلى مستوى توقعات العالم بأسره من الشعب اليابانى منذ الموعد الأصلى للأولمبياد فى عام 2020.
ونتيجة لإدراك الحكومة اليابانية للمسئوليات الجسام الواقعة على عاتقها من جراء التأكيد على تنظيم واستضافة الأولمبياد فى موعدها الجديد فى 2021، اتخذت العديد من الإجراءات الوقائية لضمان حماية ما يأتى إليها من وفود وفرق مشاركة فى الأولمبياد، وبنفس الدرجة الحفاظ على الصحة العامة لأهل طوكيو من اليابانيين والمقيمين فيها بصورة دائمة من الأجانب، وذلك لتحقيق العزل الكامل للمشاركين فى الأولمبياد، ومن هنا جاء على سبيل المثال تطبيق استراتيجية «الفقاعة» التى تعنى أن القادمين للمشاركة فى الأولمبياد يدخلون فى «فقاعة» منعزلة تماما عن السكان منذ لحظة وصولهم طوكيو إلى لحظة مغادرتهم الأراضى اليابانية.
وكان القرار الآخر، وربما الأصعب، هو عدم السماح بحضور أى جماهير، سواء من داخل أو خارج اليابان، لمنافسات الدورة الأولمبية فى جميع الألعاب، وهو قرار ليس صعبا فقط لأنه يتناقض مع أحد أهم عناصر المتعة فى الرياضة، سواء للاعبين أو للجماهير، وهو وجود المشجعين لتحفيز اللاعبين وللشعور بالتفاعل مع الفرق التى يشجعونها، ولكنه كان قرارا صعبا أيضا لأنه حرم الاقتصاد اليابانى، وبالتالى الشعب اليابانى، من عوائد مالية واقتصادية ضخمة كانت ستعود عليه من جراء وصول ملايين المشجعين من مختلف أرجاء المعمورة إلى اليابان وبقائهم لأسابيع فى اليابان وما سيقومون بإنفاقه خلال إقامتهم. إلا أن اعتبارات حماية الصحة العامة كانت الأولوية القصوى للسلطات اليابانية والتى لم يساوموا عليها ولم يقبلوا تقديم أى تنازلات بشأنها، حتى ولو جاءت على حساب منافع أو مكاسب مادية واقتصادية.
وهكذا، سوف تبقى دورة الألعاب الأولمبية الصيفية فى طوكيو لعام 2020، والتى جرت فعالياتها فعليا فى عام 2021، علامة فارقة ومضيئة محفورة فى الذاكرة الإنسانية باعتبارها حدثا غير عاديا جرى فى ظروف استثنائية، وبرهن من جديد على ما تتصف به الشخصية الجمعية للشعب اليابانى من سمات الإرادة والتصميم والعزيمة والمثابرة والإبداع والعمل الجاد.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved