الهولوجرام وحلم الخلود

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: الأحد 31 يوليه 2022 - 12:48 م بتوقيت القاهرة

أقيم على مسرح قصر المؤتمرات بباريس حفل لأم كلثوم، بتقنية الهولوجرام، فى التاسع من يوليو الماضى، وتراوحت أسعار التذاكر بين 45 و150 يورو. عادت كوكب الشرق لتشدو بالعاصمة الفرنسية بعد مرور 55 عاما على غنائها على خشبة مسرح الأوليمبيا الشهير فى نوفمبر 1967. اعتمد التسويق مثل سائر حفلات الست، التى ظهرت فيها بتقنية الهولوجرام منذ العام 2019، على فكرة وجود أجيال كاملة لم تحضر لها حفلا وعلى إحساس الحنين لدى الأكبر سنا.
وخلال الشهر نفسه، ظهرت على صفحات الفيسبوك مقاطع من تسجيلات نادرة لأم كلثوم وهى تنوع الارتجالات على «نظرة وكنت أحسبها سلام» وتخلب عقول المغاربة بتفانينها فى استخدام حرف النون أو تؤدى «كلمونى تانى عنك» كما لم نسمعها من قبل وهى تمازح الحضور وتضحك ملء شدقيها فى سهرة أخرى ارتدت فيها فستانا لم نستطع من خلاله تحديد مكان الحفل أو مناسبته. التفاعل الآنى والعفوى بينها وبين الجمهور فى هذه المقاطع أكد مجددا على سحر الأداء وكيف كان التجاوب لا يخضع لقواعد استماع معينة، فردة الفعل ونتيجة الغناء كانتا دوما متزامنتين مع ما تقوم به أو تقدم. تجربة شراكة، كما لو كان الجمهور هو المؤلف الثانى للعمل. تعيد على مسامعه الكلمات واللحن بأشكال مختلفة فيكون للإعادة تأثير التنويم المغناطيسى، ويظل متلهفا لاكتشاف المزيد بصحبتها. يهتز الناس طربا ويقفون لتحيتها انتشاء ويلحون فى طلب وإعادة مذهب بعينه، فتلهو الست بذكاء وهى تتنقل بين الإيقاعات والمقامات الموسيقية مع سبق الإصرار والترصد، حتى تصبح هى والجمهور كتلة وجدانية وهارمونية واحدة، بالطبع لا يمكن أن يتحقق ذلك فى حفلات الهولوجرام رغم البراعة التقنية والدقة والإبهار والحرص على وجود موسيقيين يعزفون مباشرة على خشبة المسرح.
• • •
يوهمنا الهولوجرام أننا نقوم برحلة عبر الزمن، وهو غالبا المعنى الذى أراد أعضاء فريق «الآبا» السويدى أن يؤكد عليه من خلال ألبومهم الذى صدر قبل عام بعنوان «رحلة» ومن خلال الحفلات التى أقيمت أخيرا بتقنية الهولوجرام على مسرح يتسع لثلاثة آلاف شخص بُنى تحديدا لهذا الغرض فى الحديقة الأولمبية بلندن. المسرح يستقبل الجمهور مرتين فى اليوم وسعر التذاكر تعدى 300 يورو للفرد. والاختلاف فى هذه الحالة هو أننا لسنا بصدد فنانين رحلوا عن عالمنا، بل أحياء يرزقون، لكن بحكم السن لم يعودوا بالصورة التى عرفها الجمهور فى السبعينيات وبداية الثمانينيات التى شهدت أوج شهرتهم. لم يحبوا الظهور على المسرح وقد شابت رءوسهم وزحفت التجاعيد على وجوههم، بل أرادوا أن يجددوا الذكرى بمزيج من أغانيهم القديمة والجديدة، لكن بالشكل الذى كانوا عليه فى إحدى حفلاتهم التى يرجع تاريخها للعام 1979.
استخدمت التقنيات الحديثة لصنع «آفاتار» لأعضاء الفرقة الأربعة، تم تصويرهم بعمرهم الحالى بواسطة 160 كاميرا على مدى أسابيع وهم يؤدون أغنياتهم وحركاتهم بدقة لكى يتم صنع «آفاتار» أو صورة تجسيدية لكل منهم، فيظهرون افتراضيا على المسرح بالهيئة التى كانوا عليها فى حفل السبعينيات. وهو ما تم عمله مع فنانين أحياء آخرين مثل ليدى جاجا وإلتون جون وماريا كارى، فقد استطاعت هذه الأخيرة مثلا أن تقيم حفلات هولوجرام فى خمس مدن أوروبية بشكل متزامن فى عام 2011، لأن هذه التقنية توفر على الفنانين عناء السفر والجولات الفنية المتعبة التى قد تصبح أكثر إزعاجا مع السن، كما تسمح لهم بالتواجد فى أكثر من مكان فى وقت واحد، ما يدر عليهم وعلى الشركات المنتجة أرباحا وفيرة، رغم تكاليف إنتاج حفلات الهولوجرام وصعوباتها.
• • •
ظهرت أول صورة هولوجرامية عام 1962 على يد العالمين إميت ليث وجوريس أوباتنيكس، من جامعة ميتشجان الأمريكية، اللذين صنعا مجسمات لقطار لعبة وعدد من الطيور، وتوالت بعدها التطبيقات حتى ظهر أول هولوجرام لصورة إنسان عام 1967. وقد اعتمدت كل هذه التجارب بالأساس على التقنية التى ابتكرها العالم البريطانى دنيس غابور عام 1947 للتصوير ثلاثى الأبعاد، وذلك فى إطار جهوده لتحسين قوة تكبير الميكروسكوب الإلكترونى، لكن تأخر ظهور التصوير التجسيمى إلى ما بعد ظهور الليزر، وحصد غابور جائزة نوبل فى الفيزياء سنة 1971 بسبب اختراعه.
تسمح تقنية الهولوجرام بإنشاء صورة ثلاثية الأبعاد باستخدام أشعة الليزر، فتطفو الصورة فى الهواء كمجسم هلامى يحمل طيفا من الألوان ويتجسد على الشكل المراد عرضه باستخدام جهاز ليزر ومقسم للأشعة وعدسات ومرايا، إلى ما غير ذلك من أدوات. التصادم بين الموجات الضوئية والشىء الذى يراد تصويره وعرضه يسمح بإمكانية مشاهدة الأجسام ورؤيتها من جميع الاتجاهات كما لو كانت أجساما حقيقية. وعلى هذا النحو انتشرت حفلات الهولوجرام حول العالم بشكل كبير منذ 2010، وقبلها بثلاث سنوات ابتدعت اليابان مغنيتها الرقمية الأولى، هاتسونى ميكو، التى تعلق بها الناس رغم كونها شخصية افتراضية بالكامل لا وجود لها فى الواقع، وحفظوا أغانيها عن ظهر قلب... مجرد «آفاتار» يتابعه ملايين البشر من خلال حفلات الهولوجرام، وقد تم خلقها بواسطة برنامج «فوكالويد» التجارى الذى طورته شركة «ياماها» لمزج الأصوات الغنائية.
• • •
هذا النمط من الحفلات سيخلق بالطبع نوعا مختلفا من التفاعل لدى المتلقى، وسيستوجب أيضا إضافات جديدة لقوانين الملكية الفكرية، فالفنانون الراحلون مثل عبدالحليم حافظ وإلفيس بريسلى ومايكل جاكسون ليس لديهم سلطة على صورتهم، وربما حقوق الورثة ليست واضحة تماما. وكما هى العادة فى كل مرة يظهر شىء جديد تكون هناك بعض التخوفات، مثلما حدث عند ظهور السينما ومن بعدها التليفزيون، إذ كان الناس يتساءلون وقتها عن مدى جدية وموهبة الممثلين على الشاشة الكبيرة مقارنة بنظرائهم فى المسرح، ثم بعدها كانت الحيرة حول تأثير التليفزيون بالسلب على العروض الحية. ورغم نظر البعض إلى تقنية الهولوجرام كمساحة وسيطة بين السينما وألعاب الفيديو أو استخدام البعض الآخر لها كنوع من الأرشفة الموسيقية فيسعى عازف عجوز مثلا أن يخلد طريقة عزفه وحضوره على المسرح من خلال حفل هولوجرام وصنع «آفاتار» خاص به، إلا أن العروض الحية تظل قصة مختلفة تماما. لا شىء يضاهى التوحد الذى يحدث بين الفنان وجمهوره، إذ أثبتت الدراسات العلمية أن الموسيقى تحقق تناغما بين النشاط الدماغى للعازفين وجمهورهم، كلما ازدادت درجة التوافق الزمنى ازداد استمتاع الجمهور بأداء العازفين أو المغنين. هنا نشعر أن الموسيقى اجتاحت كياننا ونبدأ فى التمايل والنقر على الأرض تجاوبا مع الإيقاع ونصرخ بأعلى صوت «تانى يا ست».

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved