فى رثاء العدالة والديموقراطية

أحمد عبدربه
أحمد عبدربه

آخر تحديث: الأحد 30 أغسطس 2015 - 6:05 ص بتوقيت القاهرة

لأول مرة منذ سنوات حصلت على إجازة حقيقية مع الأسرة بعيدا عن كل شىء. بعيدا عن السياسة وعن أخبار الوطن، بعيدا عن وسائل التواصل الاجتماعى وكل أدوات التكنولوجيا الحديثة وذهبت بعيدا لاستعادة الطاقة على الكتابة والتفكير. مر الأسبوع سريعا وحصلت على ما أردت من راحة وعدت لأستعيد لياقتى الذهنية وأراجع ما فاتنى من أخبار، فإذا بها كالعادة أخبار محبطة كونها تكشف عن حجم الأزمات التى وصل إليه النظام السياسى المصرى الذى لم يعد يعبأ بأى دساتير أو قوانين أو آراء ناصحة أو منتقدة، وأصبح ماضيا فى طريقه مختالا بقوته وسلطته لا يلقى بالا لأحد.

قمت باسترجاع ما كتبت فى جريدة «الشروق» خلال العام الماضى وما كتب أساتذة وزملاء أعزاء فى هذه المساحة القيمة فوجدتها خليطا من مقالات تنتقد وتنصح وتفند وتناشد وتشجب وتستنكر وتحلل ولكن بلا فائدة تذكر. وعلى الرغم من أن ما يتم تسريبه دوما من معلومات أن مؤسسة الرئاسة بل والرئيس شخصيا يتابعون ما يُكتب من مقالات ــ المعارض منها قبل المؤيد ــ فإن الحقيقة الواضحة للعيان هى أنهم يعتبرون ما يكتب مجرد حبر على ورق، كلام نظرى لا طائل ولا فائدة منه.

أفهم طبعا أن نجاحات الرئيس الخارجية فى استخدام أوراق لعب متعددة للحصول على تنازلات استراتيجية من حلفاء دوليين وإقليميين تشعر النظام وصانعى القرار بالثقة المفرطة، كما أتفهم أن أداء الغالبية العظمى من المنابر الإعلامية فى التهليل والتطبيل والتأييد والتبرير للنظام وقرارته تعطى القائمين على أمر السياسة فى مصر شعورا بالزهو والاطمئنان أن كل شىء على ما يرام، لكن على ماذا يراهنون فى الأجل الطويل؟ لا أحد يعلم!
***

كتبت فى هذه المساحة مقالا بعنوان «حتى لا تكون آخر سطور الديموقراطية» نشر فى ٧ يوليو عام ٢٠١٣ وضحت محاذير عدة من السير فى طريق إبادة الديموقراطية. الآن، وبعد ما يزيد قليلا على عامين من كتابة هذا المقال، يجب أن أكون واضحا، فالديموقراطية فى مصر ماتت ودفنت ومعها العدالة ولا نملك سوى رثائهما. ومع دفن الديموقراطية والعدالة فإن قيما أخرى كالكرامة والأمن وحقوق الإنسان قد دفنت معهما وعلينا أن نؤهل أنفسنا لهذا الواقع الأليم بلا مواربات أو عبارات دبلوماسية تغلف الحقائق المؤلمة.

علينا أن نرثى العدالة لأننا أمام نظام سياسى يعتبر أن الدستور وثيقة «ثقيلة الظل» تسبق واقع المجتمع بكثير ومن ثم فلابد من تحيُّن الفرصة لتعديله وتفريغ بعض مميزاته وخاصة فى مجالات الحريات والحقوق، مع استغلال الفرصة لزيادة «صلاحيات الرئيس» أو بعبارة أكثر صراحة، تقويض سلطات البرلمان فى مقابل سلطة الرئاسة. مع تعديل هذه السلطات فلا مانع من زيادة مدة الرئاسة ربما تصبح خمس سنوات أو حتى سبعا، وربما فى مرحلة لاحقة تصبح «مُدَّتا الرئيس» «مُدَدًا» دون وضع سقف لها.

علينا أن نتأكد أن العدالة فى خبر كان لأن الدستور المصرى تحول من مرحلة «التجميد» إلى مرحلة الانتهاكات الصريحة والمتكررة، فلم أعد قادرا على إحصاء عدد التشريعات المخالفة صراحة للدستور، ولعل آخرها قانون الإرهاب الجديد الذى وصفه تعليقا مشتركا للمبادرة المصرية للحقوق الشخصية ومركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان بأنه «صفعة جديدة للدستور وتشجيع على القتل خارج إطار القانون».

علينا أن نودع أحلام العدالة لأن قيادات عدد معتبر من الأحزاب «المعارضة» قررت أن تقدم فروض الولاء والطاعة مبكرا وأعلنت صراحة أنها ستؤيد إجراءات تعديل الدستور ولأنها بالفعل تؤيد أو تغض الطرف عن كل الممارسات السلطوية الفجة بحجج مختلفة معظمها يدور حول أكاذيب حماية الوطن والالتفاف حول قياداته، وكأن حماية الوطن لا تتأتى إلا مع انتهاك كرامة مواطنيه وحرمة دساتيره وقوانينه.

علينا أن نعترف أنه لا عدالة وكل هذا الكم من الانتهاكات لحقوق المواطنين، سواء بالإهمال المتعمد أو بعدم المحاسبة والشفافية يمر فى مصر مرور الكرام لأن هناك كثيرين فوق القانون. الأمثلة كثيرة وأكبر بكثير من حصرها فى سطور وهى تتنوع بين اعتداءات على المواطنين بواسطة بعض أهل الحظوة، أو انتهاكات متكررة لحقوق المساجين أو المحبوسين احتياطيا، فضلا عن عدد آخر من المختفين قسريا.. إلخ.

لم يعد للعدالة أثر يذكر لأن القوانين لا تطبق على الجميع، فالمستضعفون فقط هم من يقعون تحت طائلة القانون، أما هؤلاء المحميون أو المنتمون لمؤسسات سيادية فلا مساس بهم ولا اقتراب منهم. فالقوانين التى تسببت فى أن يقضى البعض سنوات العمر خلف الأسوار، هى نفسها التى سمحت لآخرين بارتكاب نفس الأفعال والتساهل معهم لأنهم كانوا «يحتجون» بحسب تصريحات أحد المسئولين رفيعى المستوى فى وزارة الداخلية.

ثم إننا نستطيع أن نتأكد أن العدالة قد ماتت ونحن نشاهد نخبة جديدة يتم تشكيلها ــ من إعلاميين وسياسيين وأمنيين ــ عقيدتها هى تأميم الوعى المجتمعى وخنق المساحات العامة وقصرها على المؤيدين والمنتفعين فقط لا غير. فها هى بعض المنابر الإعلامية تغلق أبوابها بسبب أساليب ملتوية تحت شعار «البيزنس» تدخل لتؤمم الساحة الإعلامية وتحاول أن تنهى حالة حرية الرأى والفكر التى تلت ثورة يناير لصالح التبرير الفج للانتهاكات.

قطعا لا داعى للتذكير بالبرلمان المؤجل إلى أجل غير مسمى أو قوانينه المعيبة أو العمل الذى يتم على قدم وساق لخلق برلمان أشبه بعرائس الماريونت سيكون أكثر سوءا حتى من برلمان ٢٠١٠ سيئ السمعة، فهذا البرلمان لا يراد له سوى أن يكون حاملا لأختام السلطة التنفيذية والأجهزة الأمنية وسيكون مصيره الحل إن آجلا أو عاجلا بعد أن يؤدى مهمته بنجاح. ولا داعى قطعا للحديث عن حال مؤسسات العدالة فى مصر والتى أصبحت هى بحد ذاتها معضلة غير قابلة للحل.
***

كثيرون سيقرءون هذا المقال وسيقولون: وما الجديد؟ آخرون سينتهون من قراءة هذه الكلمات ويتندرون على «رثاء العدالة» التى لا تستحق الرثاء فى رأيهم مادام لدينا رئيس قوى ونظام قادر على التنمية والتقدم، كما أن فئة ثالثة كالعادة ستقول إن الأمن والخبز أولا، ولتذهب الديموقراطية والعدالة وحقوق الإنسان إلى الجحيم فالمهم أن «نستعيد البلد». الحقيقة التى لا يساورنى أمامها أى شك هى أن وأد قيم العدالة فى النفوس والتخلص من عملية التحول الديموقراطى فى مصر سيكونان سببا فى إفشال أى محاولات للإصلاح الاقتصادى. العدالة أولا والسياسة ثانيا والأمن ثالثا والاقتصاد رابعا. هذه هى المعادلة، بدون عدالة وإجراءات للإصلاح السياسى والأمنى لن يكون من الممكن إحداث نهضة اقتصادية، بدون العدالة والإصلاح السياسى سيظل النظام أسيرا لمعادلات التسكين والتأجيل والتسويف والتحايل على التناقضات البنيوية الموجودة بداخله، كما أن الرهان المبالغ فيه على الدعم الإقليمى والدولى فى إقليم هش وملىء بالثغرات والتناقضات والتحولات السريعة مثل إقليم الشرق الأوسط هو مغامرة يجب أن تكون لها حدود وسيناريوهات بديلة.

لا ينبغى الملل من تكرار الأفكار نفسها مادام هناك إصرار على اتباع نفس السياسات، فالمعادلة الحالية هى نفس معادلة مبارك، الأمن مقابل السياسة، رغيف العيش مقابل الكرامة، التنمية مقابل التعددية، هى فى الواقع معادلة ثبت فشلها وستفشل حتما مرة أخرى لأنه لا جديد فى المعادلة، الناس فى انتظار تحسن أحوالهم المعيشية واستعادة كرامتهم الإنسانية، وبلا عدالة ودستور وسياسة لن يكون بالمقدور تحقيق عدالة توزيعية، ربما يتمكن النظام (كما تمكن نظام مبارك) من تحقيق معدلات نمو عالية، أو تحقيق استقرار مؤقت، أو الاستفادة من تناقضات البيئة الإقليمية والدولية، لكن ستظل التناقضات الداخلية قائمة ما لم تكن هناك إرادة سياسية حقيقية للتغيير. كالعادة يصم الجميع آذانه ويتقاعس عن اتخاذ زمام المبادرة، ثم نبدأ البكاء فى الوقت الضائع.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved