خَـــيبَة

بسمة عبد العزيز
بسمة عبد العزيز

آخر تحديث: الجمعة 30 أغسطس 2019 - 11:05 م بتوقيت القاهرة

بَين الفَينةِ والفَينة، يقطِع علينا الفاصِلُ الإعلانيُّ اندماجَنا في الأحداث، ليطلَّ الصَوْتُ المُتأنِ الرخيم: "لا خابَ مَن استشار". يأتي في نبرةٍ تقريريةٍ حاسمة، كأنه يوقظنا مِن طول غفلتنا ويُنهي سُباتَنا وسذاجَتنا، وينبهنا لأهمية المُستشار القانونيّ الذي يرَوّج له، ويُحذِّرنا تحذيرًا مُبطنًا مِن عدم اتّباعه؛ لئِلا نَخيب.
***
الخَيْبةُ في مَعاجِم اللُّغة العربية هي عدم نوالِ المُراد، ويُقالُ خابَ الرجلُ إذا خَسِرَ وحُرِم مِن مَطلبِه، وتَعذَّر عليه تحقيقُ مُناه. ربما تكون الخَيْبةُ بفعلِ فاعلٍ فيُقال على سبيلِ المِثال؛ خَيَّبَ الرجلُ مُنافسَه تَخْيِيبًا، أي أصابه بالخسران وأفقده مَكسبَه، وبالمثلِ إذا خَيَّبَ الولدُ ظَنَّ أبيه أي؛ لَمْ يَأْتِ بِمَا كَانَ يرجو منه ويَأْمُل، أما إذا سقط المرءُ في الباطلِ، قِيل مَجازًا إنه قد وَقَع في وادِي تُخُيِّبَ. الخَيْبةُ كلمةٌ مُفرَدةٌ رغم ثِقَلها على النَّفسِ والسَمْع، والجَمعُ منها خيْبَات وخَيَبات بتسكين الياءِ وفتحِها على التوالي، وفي المأثور الشهير أن الهَيْبَةُ خَيْبَة؛ والقصدُ أن مَن هابَ أمرًا مِن الأمور وخَشِيَه، لم يَجنِ ثِمَارَه وأضَاعَ الفُرصةَ، وفي هذا يقول الشاعرُ: لا تكونَنَّ للأمورِ هيوبًا ... فإلى خَيْبةٍ يصير الهيُوب.
***
الخائِبُ في المَدرسةِ ليس بالضرورةِ خائبًا في سنواتِ الجامعةِ، والخيبةُ في هذه وتلك لا علاقة لها بتوَقُّعات المُستقبَل المُشرِف مِن قريبٍ أو بعيد؛ فالقادمُ يَعتمد في الأغلبِ على مَعايير الوَساطةِ وقوَّتها، وعلى الحَسَبِ والنَسَبِ وحَجم الثروةِ المُكتنزَة؛ لا على ما ارتفع مِن درجاتٍ وتقديراتٍ، ولا على مِقدار الكدّ والاجتهاد، وأَكم مِن مُجِدّ رفيعِ الذكاء، انتهت به الحالُ إلى عَمَلٍ لا يليق، ولا يُغتَنَم مِن القبولِ به سوى مَهانةٌ ومَذلَّة، ولا تباركُه وتزيّنه في الأعيُن إلا شعاراتٌ جوفاءٌ لا تفيد.
***
في التعبير عن حَجم الخَيبَةِ والفشلِ المُدوّي، تأتي أقوالٌ ومأثوراتٌ كثيرة؛ يَصِف الناسُ الحالَ المًزرية بأنها "خَيْبةٌ قوية"، ويعلنون في مَواقف الإخفاقِ المُتكرِّر الذي يكتسب صِفَتيّ الدَيمُومَة والاستمرار أن "خَيْبة الناس السبت والحدّ وخيبتنا ما وَرَدت على حدّ"، والحقُّ أن هذا القولَ تحديدًا يَردُّه بعضُ الباحثين إلى نزعة سُخرية دينية وتفرِقةٍ بغَيضة، بينما المُتفَحِّص يراه مُساواةً بين الجميع؛ فالخَيْبةُ عامة شاملة لا تنتقي واحدًا وتتجنَّب الآخر. في إطارِ تحقيقِ الفَشل، يتداول كثيرُنا التعبيرَ المِصريَّ الأصيل "خَيْبة بالويبة"؛ والويبة كلمة مُستمَدَّة مِن اللغةِ القِبطيةِ القديمةِ، تُشير إلى وعاءٍ يُستَخدَم كمِقياس ويُعادِل كيلتين، والمعنى هنا أن الخَيْبةَ تُكالُ مَرتان، فهي ليست واحدةً مُفردةً، بل مُضاعَفة.
***
إذا وَصَفَ الناسُ مَن ناله فشلٌ ذريع في مُهِمَّة كان عليه إنجازها قالوا: "عاد يَجُر أذيالَ الخَيْبة" جمعًا وليس ذيلًا واحدًا، والمُراد أنه ناءَ بخسارةٍ مُدوّية ماحقة. يُنظَر للذيلِ بتحقير على عكس الأنف مثلًا، ولا أبرز مِن قول الحطيئة في رفع شأن قبيلةِ "أنف الناقة" التي خزيت باسمها: قَومٌ هُم الأنفُ والأذنابُ غَيرُهُم ... ومَن يُسوِّي بأنفِ الناقةِ الذَنبَا. الذيلُ في الأعرافِ السائدةِ أدنى طَرفًا ومَكانةً، وإذ لا تكفي الخيبةُ وحدُها وصفًا في بعضِ المَواقف؛ فيُضافُ إليها ما يُزيدها سوءًا، أذنابٌ وأذيالٌ تُذيقُ الخائِبَ الإهانةَ وتترك في فَمِه طَعمَ المَرارة.
***
قد تكون الخَيْبةُ مَاديةً مَحدودة، أو مَعنويةً هائلة. الأولى أمرُها سَهلٌ، والثانيةُ أثرُها عَميقٌ وانعكاساتُها مُؤلمَة، ورغم ما تُورِث المَرءَ مِن أوجاعٍ تَقُضُّ النَّفسَ، فقد أوردها المأثورُ الشعبيّ المَعروف في مَشهد حركيّ بارع التصوير إذ قيل: "خَيْبة أمل راكبة جمل". سِنامُ الجَّمَل مُرتفعة كأنها هضاب، تغدو الخَيْبةُ فوقها أوضَحَ ما يكون ويتكَسَّر عليها الأملُ، والجِمالُ ذاتُها تسير -ما لم يستعجلها الحادي- على مَهل، فكأن الخَيْبةَ الجَليَّة تتهادى ليراها مَن لم يَرَ.
***
إذا اغتاظ واحدٌ مِن فَعيلِ آخر دعا: خَيَّبَك الله، أي حَرَمَك مِن مَقصِدك، وإذا استنزلَ به الخسران قال: خَيْبةُ الله عليك. كلتاهما عبارةٌ صارت نادرة الاستخدام، لكنها كانت فيما مَضى ذائعةً، وكان اللسانُ مُستقيمًا، ينطقُ الأحرُفَ العربيةَ ويلجأ للتعبيرات المِصريَّة والأمثولات؛ كُلَّما اقتضى المَقام. مَرَّ الزمنُ وحَلَّت الكلماتُ الأجنبية في الأفواه، وخَاب المُتشاتِمون والمُتمازِحون وبادَ الظُرفاء.
***

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved