شغف الترحال

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: السبت 30 سبتمبر 2017 - 9:32 م بتوقيت القاهرة

قبل كل شىء، يبحث الرسام الفرنسى جولو، الذى قضى فى مصر أكثر من أربعين عاما، عن متعة المشاركة. يحب أن يحببنا فيما أحب واكتشف. تظل رأسه تعج بالأفكار، تختمر على مدار السنين، حتى تصبح جاهزة لأن تكون مشروع كتاب أو بالأحرى ألبوما جديدا للقصص المصورة. فى السابق، جعل القارئ يعيد اكتشاف رواية ألبير قصيرى «شحاذون ونبلاء»، لأن الكاتب المصرى الذى عاش طويلا فى باريس وكتب بالفرنسية، كان بمثابة مفتاح الكنز لجولو، كما بالنسبة للكثيرين، وهو الذى كان وراء ولعه بمصر حين قرأه فى سن العشرين. فهناك ــ كما يقول جولو ببساطة ــ نوع من الكتاب جدير بأن يغير حياتك، منهم قصيرى والألمانى ترافين والرومانى استراتى. لذا تناول جولو حياتهم وأعمالهم من خلال قصص مصورة، آخرها «استراتى.. الصعلوك أو الرحالة الشارد» (Istrati, le vagabond) التى ستصدر رسميا فى فرنسا فى الحادى عشر من أكتوبر الجارى، والتى قدمها فى حفل توقيع للجمهور المصرى أولا، من خلال الدورة الثالثة لمهرجان «كايرو كوميكس» الأسبوع الماضى فى الجامعة الأمريكية بوسط القاهرة.

بانييت استراتى، صاحب رواية «كيرا كيرالينا»، كان أحد من قدموا عالم الشرق الغامض، بعد رحلاته المتعددة فى مدن المتوسط التابعة للإمبراطورية العثمانية، فى نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. زار مصر ولبنان واليونان وسوريا وتركيا، قبل أن يستقر فى باريس ويتعلم الفرنسية بعد سن الثلاثين ويكتب بها أعماله الأدبية التى نالت فورا شهرة واسعة، ثم طالها النسيان ككاتبها بعد أن أصابه مرض السل ومات فقيرا سنة 1935.
***
قرر جولو أن يذكرنا بهذا الكاتب الذى راح ضحية أفكاره المغايرة وتصديه للبروباجندا السوفيتية، ليكون وقعه علينا مختلفا فى هذا التوقيت بالذات، إذ نرى كيف تم اغتياله معنويا، وكيف لم يجرؤ أحد أن ينشر مقالا عن ظروف موته وحياته، سوى صحفية فرنسية واحدة، وهى لم تنجح فى نشر مقالها إلا فى الخمسينيات أى بعد حوالى عشرين عاما من وفاته. لماذا؟ لأنه أثار حفيظة دوائر اليسار عندما فضح ممارسات ستالين وأعوانه، بعد زيارته للاتحاد السوفيتى السابق فى عشرينيات القرن الماضى، فقاطعه الجميع رغم صحة رواياته التى جاءت وفقا لما رأى وسمع من أهل البلد خلال زيارته وتجواله. شاهد مثلا كيف استولى بعض المقربين من دوائر الحكم على شقة أحد رفاقه، فألصقوا به التهم واعتبروه معاديا للثورة، فقط لأنهم طامعون فى محل سكنه.

***

اليوم يحاول جولو رد اعتباره، بعد رحلة بحث وتمحيص، قضى بعضها فى المكتبات وبعضها فى رومانيا حيث زار ميناء «برايلا» الكوزموبوليتانى، مسقط رأس بانييت استراتى التى تركها فى سن المراهقة ليصول ويجول ويمتهن أعمال بسيطة، إذ شارك مثلا لدى وصوله القاهرة فى بناء فندق سميراميس القديم واشتغل فى الفنادق والمطاعم الصغيرة التى كان يمتلكها أبناء الجالية الرومانية من اليهود. يفتح جولو نافذة على عالم المقاهى والصعلكة المفضل لديه، والذى عرفه الرسام عن قرب منذ زامل كبار رسامى الكاريكاتير فى مصر أمثال حجازى وبهجت، كما عرفه فى باريس، نهاية الستينيات وبداية السبعينيات. المقاهى بالنسبة لهؤلاء جميعا هى نبض الشارع بتفاصيله التى يهواها جولو الذى عاش فى مصر متنقلا بين حى السكاكينى بالقاهرة ومنطقة القرنة بالأقصر. وخلال كل هذه الصولات والجولات يتوقف جولو مليا أمام الصداقات التى عقدها هو أو أستراتى، فدوما كان هناك من يأخذ بيدهما، من يهدى لهما كتابا أو يعرفهما على كاتب يغير مسار حياتهما، ووسط كل هذه اللقاءات والمغامرات والمصادفات يظل الحكى هو الأساس لكليهما: جولو يحكى بالرسم والنصوص القليلة، واستراتى بالقصة والرواية. كلاهما يتحدث عن الشرق، فى الماضى والحاضر، لكن بعين «المنتمى اللا منتمى»، الذى يكون خارج المكان وداخله فى آن واحد. يصف الاثنان مدن المتوسط فى أجواء الحرب العالمية، فيصف استراتى دمشق بالكابوس، ويتحدث عن انتشار الكوليرا فى موقع آخر، يشعرنا بسهولة وحرية الانتقال من بلد إلى بلد، كما نلمس شغف الترحال حين يقول فى ألبومه المصور على لسان والدة الكاتب: «اذهب بعيدا... اعبر تسعة بحور وتسعة بلدان، وعندما ترجع يوما ستجدنى كومة من التراب، يدلك عليها الجيران»، فالبعض كتب عليه الترحال، وكتب عليه أن يدفع ثمن اختلافه.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved