مشهد قبيح لامة عريقة

إبراهيم عوض
إبراهيم عوض

آخر تحديث: الثلاثاء 30 أكتوبر 2012 - 1:20 م بتوقيت القاهرة

آخر التطورات فى عملية صياعة الدستور هى نشر مسَودة له، ثم حكم محكمة القضاء الإدارى بإحالة الطعون المقدمة ضد التشكيل الثانى للجمعية التأسيسية إلى المحكمة الدستورية للفصل فيما إذا كان اختيار أعضائها متفقا مع الحكم الوارد فى المادة الستين من الإعلان الدستورى الصادر فى 30 مارس 2011 أو منتهكا له، وأخيرا إعادة النص المنشور إلى لجان الجمعية لمواصلة التباحث حول النقاط الخلافية فيه.

 

ثمة من يطلب الآن وقف جلسات الجمعية حتى تفصل المحكمة الدستورية فى دستورية تشكيلها، غير أنه سواء واصلت الجمعية جلساتها أو توقفت عن عقدها، وأيا كان حكم المحكمة الدستورية فى حالة انتظار صدوره، فإنه لا يمكن لهذا الحكم أن يحلَ كل المشكلات الكامنة فى عملية صياغة الدستور. هذه مشكلات سياسية لا يمكن لحكم قضائى، ولو كان قضاء دستوريا، أن يحلها، وهى مشكلات كانت معروفة، إلا أن نشر المسَودة أزاح كل غطاء عنها.

 

●●●

المشكلات هى خلافات بين أعضاء الجمعية التأسيسة أنفسهم، حتى فيما بين أولئك المنتمين منهم ألى نفس التيار، وخلافات بين لجان الجمعية، وخلافات فيما بين الجمعية من جانب، وقوى سياسية خارجها من جانب آخر، فضلا على لغو وركاكة لا تليق بنص قانونى عادى، فما بالك إن كان دستوريا.

 

أول الخلافات كان بشأن وضع المسودة المنشورة، فلقد خرج أعضاء فى الجمعية، من غير الأغلبية النسبية لحزب الحرية والعدالة، ينددون بالنص المنشور ويقولون أنه لم يعتمد وأن الاتفاق لم ينعقد بشأن هذه المواد أو تلك فيه. وثار ما يشبه الشجار بين لجنة الصياغة فى الجمعية، من جانب، وبعض لجان الموضوع فيها، من جانب آخر، حيث اتهمت هذه اللجان لجنة الصياغة بأنها تلاعبت فى صياغات المواد التى أرسلتها هى إليها. ومن خارج الجمعية، أدانت قوى سياسية واجتماعية النص المنشور برمته واعتبرته نكوصا عن تقدم فى التنظيم السياسى والاجتماعى أحرزته مصر لأكثر من قرن من الزمان. يضاف إلى هذه الخلافات ما سبقها من انسحاب عدد غير قليل من أعضاء الجمعية، ليس معروفا على وجه الدقة إن كان أعضاء احتياطيون قد حلُوا محلهم جميعا أم لا، وعودة بعض من انسحبوا ثم انسحابهم من جديد. وأخيرا تجىء إعادة النص المنشور للمسوَدة إلى لجان الجمعية لتكتمل صورة الفوضى فى إدارة أعمالها وتسييرها.

 

●●●

 

هذه الفوضى ليست منبتة الصلة بموضوعات الخلاف، بل إن هذه الموضوعات هى السبب فيها. موضوعات الخلاف، وبإيجاز، تشمل ضمن ما تشمل صياغة ذكر الشريعة الإسلامية فى الدستور وتفسير هذه الصياغة من عدمه، والإشارة إلى الأزهر الشريف وإلى شرائع المصريين المسيحيين واليهود، وهى تخص كذلك وضع المرأة وحقوقها ومساواتها بالرجل، وسلطات رئيس الجمهورية والحدِ منها فيما يتعلق مثلا باختيار رئيس الوزراء أو بتعيين قضاة المحكمة الدستورية، واستقلال هذه المحكمة، وتبعية النيابة العامة للسلطة التنفيذية أو اعتبارها جزءا لا يتجزأ من القضاء. وموضوعات الخلاف تتعلق أيضا بتشكيل مجلس الدفاع الوطنى الذى يشكل العسكريون فيه الأغلبية، وبوزير الدفاع الذى تحقق المسوَدة المنشورة سبقا فى القانون الدستورى بالنص على ضرورة أن يكون عسكريا، وبتحقيق الممارسة الفعلية للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وبالحقوق والحريات، خاصة ما يتصل منها بتنظيم القانون لحرية إنشاء النقابات والاتحادات والتعاونيات وبحرية إقامة دور العبادة، وبإدارة هيئة وطنية للصحافة والإعلام للمؤسسات الصحفية والإعلامية المملوكة للدولة. تعدد موضوعات الخلاف يدعو للتساؤل حول ما أنجزته الجمعية حقا، خاصة وأن أغلب أوجه الخلاف ليس ما بين الجمعية ومن هم فى خارجها فقط، بل هى أيضا بين أعضاء الجمعية ذاتها.

 

●●●

 

فإذا نظرت فى صياغة المواد ستجد أخطاء فى بناء الجمل ومنافاة للمنطق تصل إلى حدِ الركاكة، وستكتشف خروجا على ما توجد الدساتير لتنظيمه. «الأزهر الشريف» مثلا «مجاله الأمة الإسلامية والعالم كله، ويتولى شئون الدعوة الإسلامية، وتكفل الدولة الاعتمادات الكافية لتحقيق أغراضه» كيف يمكن لعقد بين الشعب المصرى ودولته أن يدخل الأمة الإسلامية والعالم كله كطرفين فيه؟ أم أن المقصود هو أن يتطوع الأزهر الشريف بالنشاط فى كافة البلدان الإسلامية وأنحاء العالم حتى بدون أن تطلب هى ذلك؟ إن جاز هذا قانونيا، وهو لايجوز، فمن أين للدولة المصرية الموارد الضرورية لذلك؟ واقع الأمر أن هذا لغو يسيء إلى الأزهر الشريف ولا مكان له فى أى دستور.

 

وخذ المادة السادسة من المسوَدة التى تنص على ان «يقوم النظام الديمقراطى على مبادئ الشورى، والمواطنة التى تسوى بين كل مواطنيها»: دعك من معنى «مبادىء الشورى»، ومن «تسوِي» التى ينبغى أن تكون «تساوي»، ولكن المواطنين، هل تساوى بينهم المواطنة، وهى حالة وبالتالى لاتقوم بفعل، أو أن الذى يساوى هو النظام السياسى؟ إن كان هو النظام السياسى، وهو كذلك بالفعل، فإن المساواة تكون «بين كل مواطنيه» وليس «مواطنيها». خطأ لا يليق لبداهة الإعراب فيه.

 

وفى المادة التاسعة عشرة «للأموال العامة حرمة وحمايتها واجب وطنى على كل من الدولة والمجتمع»: الدستور يلزم الدولة فى مواجهة الشعب، أما الأفراد والجماعات الذين يتكوَن المجتمع منهم فالقانون هو الحكم فى مدى احترامهم للأموال العامة وحمايتهم لها. ثم ما هى ضرورة أن يوصف الواجب بأنه وطنى؟ هل يوجد واجب من نوع آخر لحماية الأموال العامة؟ الصفة هنا تضعف من وقع الجملة بدلا من أن تدعمه، والأمر ذاته ينطبق على وصف مشاركة المواطن فى الحياة العامة على أنها «واجب وطنى» فى المادة التاسعة والأربعين. وحتى لا نطيل فى أمر اللغو فى الصياغة نكتفى بإضافة الإشارة إلى «الكرامة الإنسانية حق لكل مواطن» فى المادة الثامنة والعشرين وإلى نفس العبارة فى المادة الثالثة والثلاثين: هل توجد كرامة غير إنسانية حتى ينص على أن حق كل مواطن هو فى «الكرامة الإنسانية» بالذات وليس فى غيرها؟ اللغو والركاكة تكشفان عن تسيب فى تحديد المضمون وفى صياغته.

 

●●●

 

الفوضى فى إدارة عملية التفاوض بشأن الدستور وكتابته، وأوجه الخلاف المتبقية العديدة فيه، والتسيب فى تحديد مضمونه وفى صياغته، كلها معا تشكل مشهدا قبيحا لايليق بأمة عريقة نشأت المعرفة على أرضها منذ آلاف السنين، ثم استزادت بقيم المسيحية، وعم عليها الإسلام فحملت لواءه وصارت منارة العروبة، وفى العصر الحديث صاغت أول دساتيرها منذ ما يربو على القرن وربع القرن، وفرَخت العلماء والقانونيين والسياسيين والأدباء والفنانين.

 

يبقى أن المشهد القبيح يرجع أساسا إلى موضوعات الخلاف وإلى تشتت المواقف بشأنها. الفوضى والتسيب المذكوران سيعالجان تلقائيا إن توصلَ الأطراف فى عملية صياغة الدستور، أو أغلبية معتبرة من بينهم، إلى الإتفاق بشأن موضوعات الخلاف.

 

من أسف أنه لا توجد فى عملية صياغة الدستور آلية تشجع أطرافها على التوافق وتدفعهم إليه. كان يمكن للجنة الشهيرة للتعديلات الدستورية، والتى استفاد المجلس العسكرى من أعمالها فى إصدار الإعلان الدستورى فى 30 مارس 2011، كان يمكن لها أن توجد هذه الآلية بالنص على اغلبية مرجحة فى انتخاب أعضاء الجمعية التأسيسية، ثم فى اعتماد مشروع الدستور، وأخيرا عند اعتماد الدستور فى استفتاء عام. كان من شأن الأغلبيات المرجحة أن تشجع على التوافق وأن تدفع إليه. لجنة التعديلات الدستورية لم تفعل ذلك عن سهو أو عن وعى لايعرف أحد مبرراته.

 

على الأطراف فى عملية صياغة الدستور أن يتحلوا بالحكمة وأن يتوصلوا إلى آلية للتوافق، صريحة أو ضمنية، تيسِر الانتهاء إلى صياغة لدستور يسمح للمصريين كلهم بأن يقبل بعضهم البعض، وبأن يتعايشوا وأن يتعاونوا على التصدى لمشكلات بلادهم، وعلى الإرتفاع بمستوى معيشة أبنائها. من غير التوافق لن يمكن للمصريين، حتى وإن اعتمد دستور لهم، أن يعيدوا الاستقرار الضرورى لبلادهم.

 

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved