ما يحيى السياسة وما يميتها

علي محمد فخرو
علي محمد فخرو

آخر تحديث: الخميس 30 أكتوبر 2014 - 8:05 ص بتوقيت القاهرة

من حق القطر العربى التونسى أن نعتز بطريقة تعامله مع ثورة شعبه، تلك الثورة التى فجرت الينابيع الصافية فى الماء العربى الآسن الراكد المتعفن.

فأن يستطيع شعب تونس وقياداته السياسية أن يبحر طيلة أربع سنوات فى بحر متلاطم، من خلال ممارسة تجارب الخطأ والصواب والأخذ والعطاء، فإن ذلك يطرح السؤال التالى: لماذا نجح أهل تونس، حتى لو كان نجاحهم نسبيا، ولماذا تعثر غيرهم، حتى لو كان ذلك التعثر مؤقتا؟

الجواب عن ذلك التساؤل سيكون مفيدا لو أنه تخطى المؤقت الظاهر إلى الثابت الأعمق. ولن يكون ذلك سهلا، ولكن أهمية الموضوع تستاهل المحاولة.

أولا: الأهمية القصوى لوجود المجتمع المدنى الناضج الحيوى، الذى لا يقتصر على التُواجد الفاعل للمؤسسات السياسية فقط وإنما يتعدى ذلك إلى أن يشمل وجودا فاعلا مؤثرا للمؤسسات المدنية الأخرى من مثل النقابات العمالية والجمعيات المهنية والحقوقية والتجُمعات النسائية والاتحادات الطلابية. وكمثال على ذلك يمكن الإشارة إلى الدور الايجابى البارز الذى لعبته النقابات التونسية على الأخص إبان الفترة الانتقالية التى عاشتها الحياة السياسية التونسية.

الوجود المجتمعى المدنى الشامل الحيوى الملتزم الرافض لدور المتفرج له أهمية قصوى فى ممارسة الحوار والإقناع ومن ثم التقريب، فى ممارسة الضغط والتهديد لمن يناور بانتهازية، فى ممارسة الفضح والثناء، وبالتالى فى مساعدة بناء الاتزان والمعقولية فى الحياة النضالية السياسية.

ثانيا: وجود ضوابط أخلاقية ووطنية تحكم العلاقات بين القوى السياسية، بحيث يحلُ التسامح محل التعصب، وتعلو مصلحة الوطن على المصالح الفئوية والحزبية، ويتمُ التعامل مع قضايا المواطنين وأحلامهم بجدية وكفاءة وعدالة وليس بالفهلوة والمعارك الدونكشوتية.

وكمثال على ذلك القدرة المبهرة التى أظهرتها القوى السياسية التونسية، بأطيافها الأيديولوجية المختلفة بل والمتضادة، فى العمل مع بعضها البعض لإنجاح الفترة الانتقالية وترحيل أية خلافات بينها إلى حين وصول ثورة شعب تونس المباركة إلى بر الأمان.

منذ انقسامات وصراعات خمسينيات القرن الماضى فيما بين القوى السياسية العربية القومية والإسلامية واليسارية والليبرالية، والتى كانت لها نتائج كارثية على مجمل الحياة السياسية العربية فى كل الوطن العربى، جرت محاولات جادة للتقريب بين تلك القوى وإيجاد أرضية مشتركة مقبولة من الجميع. لقد كان الهدف هو إقناع الجميع بأنه عندما يكون وجود الأمة فى خطر أو تكون المجتمعات مستباحة وسقيمة وقريبة من الاحتضار فإن واجب القوى السياسية أن تعلو فوق اختلافاتها الفكرية وخلافاتها التنافسية وأن تضع المصالح الكبرى فوق كل المكاسب المؤقتة أو الفرعية. لقد أثبتت فواجع السنوات الأربع الماضية أن مثل هذه الممارسة كان يجب أن تحكم الحياة السياسية العربية، على المستوى الوطنى والقومى، بل ولسنين طويلة قادمة، وإلا فإن الجميع سيخسر، وإلا فإن تضحيات شباب الربيع العربى ستذهب هباء.

ثالثا، إن نجاح أو فشل الحياة السياسية فى المجتمعات يرتبط إلى حد كبير بنوعية مزاج وروحية وسلوكيات شعوبها. هناك شعوب تتصف بسلوكيات تحيى السياسة وهناك شعوب مزاجها يميت السياسة. بعض الشعوب تميل سلوكياتها اليومية نحو الفهلوة والمراوغة والكذب فيصاب النشاط السياسى بالسطحية وعدم الجدية بسبب غياب المساءلة من قبل الناس لمؤسسات السياسة ولقادتها.

وبعض الشعوب سريعة الغضب، قليلة الصبر، تعتبر السَحل وسفك الدماء رجولة، ما يقلب الحياة السياسية إلى صراعات وصراخ وحوار طرشان.

بينما تتصف بعض الشعوب بالرقة والسماحة والاتزان العاطفى، فتحتقر من يحاول إثارتها أو خداعها، وتنأى بنفسها عن الغلو والمماحكات والانقياد الأعمى فى المواقف. عند ذاك ينعكس كل ذلك على الشارع السياسى ليصبح مسالما وصادقا مع نفسه، فلا يمارس الفحش فى السياسة من خلال ممارسات إقصاء الآخرين وتهميشهم.

•••

الذين خبروا شعب تونس، رجالا ونساء، يعرفون أن كثرته تتصف بالكثير من الصفات الإيجابية الحسنة التى ذكرنا.

وهى صفات فرضت على قادة السياسة فى تونس أن يتعاملوا مع الفترة الانتقالية باتزان ومعقولية ورفض للعنف العبثى.

لا يعنى كل ذلك أن تونس واحة للحياة السياسية المثالية، ففيها الكثير من الأخطاء والخطايا. لكن فيها مزاج ثقافى وإرادة سياسية يواجهان تلك الأخطاء والخطايا ويوجدان الحلول المعقولة لها.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved