رجل الإقليم المريض

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الأحد 30 أكتوبر 2016 - 10:20 م بتوقيت القاهرة

تندفع العمليات المسلحة فى الموصل وحلب، بحسابات الأطراف الدولية والإقليمية المتعارضة، إلى سيناريوهات تقسيم شبه محتمة.
خروج «داعش» من الموصل، ثانى أهم مدينة عراقية، مؤكد رغم أى فواتير إنسانية تدفع أو معارك عسكرية تطول.
ماذا بعد الموصل؟ وعلى أى نحو تستقر الأوضاع الهشة؟
هناك احتمالات بتصفية حسابات سياسية على أسس مذهبية وعرقية.
وهناك احتمالات أخرى باتساع نزعات العنف المتبادل والقتل على الهوية وإعادة إنتاج «داعش» وتصدير الإرهاب إلى حيث يستطيع أن يصل.
بالنظر إلى حجم الانهيار الذى لحق ببنية العراق كمجتمع موحد يصعب التعويل على مشروع وطنى جامع يصالح مكوناته ويؤسس لدولته من جديد.
وبالنظر لمصالح وحسابات اللاعبين الكبار على مسارح السلاح حول الموصل فإن الصفقات غير مستبعدة على حساب العالم العربى المريض عند رسم الخرائط الجديدة.
وقد كان لافتا إعلان وزير الدفاع الأمريكى «آشتون كارتر» عن خطة جاهزة واستعدادات تجرى لطرد آخر لـ«داعش» من عاصمتها فى «الرقة» السورية بغضون أسابيع، وربما قبل تحرير الموصل.
من الناحية العسكرية فإن ذلك يساعد على حصار «داعش» وتصفية مراكز قوته ووضع كلمة النهاية لما يسمى «الدولة الإسلامية».
غير أنه من الناحية السياسية فإننا سوف نجد أنفسنا فى العالم العربى أمام حقائق جديدة تنبئ بخرائط مختلفة.
فى نفس اللحظة التى تتأهب فيها قوات التحالف الأمريكى للتقدم إلى الرقة ترفع القوات الروسية معدلات جهوزيتها لحسم معركة حلب، العاصمة السورية الثانية، وحسابات النار تتجاوز أى بيانات من هنا أو هناك، وتلك من مقدمات التقسيم.
أول معضلة فى معركة الرقة، الاعتراض التركى على مشاركة وحدات حماية الشعب الكردية التى تصر الولايات المتحدة عليها.
بالنسبة لتركيا فإنها تخشى أن تفضى تلك المشاركة إلى جائزة سياسية كبيرة على حسابها عند حسم المعارك الأخيرة ضد تمركزات «داعش».
فى المشهد أدوار كردية ــ عراقية أساسية فى معارك الموصل، واشتباكات فى كركوك المدينة العراقية النفطية مع مسلحى «داعش».
بأقل الحسابات فإن كركوك سوف تضم إلى إقليم كردستان العراق الذى قد يحصل على استقلاله الكامل.
وبأعلى الحسابات فإنه يمكن تصور بناء دولة كردية فى الإقليم تضم أكراد سوريا والعراق، وتتطلع لضم أكراد تركيا.
ذلك يعنى بالضبط مشروع تقويض للدولة التركية، ومن المحتمل للغاية أن تناصرها إيران لمنع مثل هذا السيناريو الذى قد يطالها تاليا.
يلفت الانتباه أن إيران أعلنت استعدادها للتوسط بين الرئيس التركى «رجب طيب أردوغان» ورئيس الوزراء العراقى «حيدر العبادى» لحلحلة الأزمة بينهما وتمكين جيش الأول من المشاركة فى معارك الموصل.
حسب الأوضاع على الأرض الآن فإن إيران أكبر الرابحين، لكن لا أحد بوسعه أن يعرف ما قد يحدث غدا.
وتمركز بعض القوات التركية بالقرب من الموصل رسالة، واعتراضها على أى دور كردى فى معركة الرقة رسالة أخرى.
مفاد الرسالتين: نحن هنا وطرف مباشر فى رسم أى خرائط جديدة، ولا شىء سوف يجرى على حسابنا.
بنص تعبير «أردوغان»: «إذا كانت المسألة تتعلق بالحرب على داعش، فنحن جاهزون دون حاجة إلى وحدات حماية الشعب الكردى».
غير أن الأمور ليست بمثل هذه البساطة.
فللأمريكيين رهاناتهم على الأكراد، بما يؤشر إلى مشروع دولة أو جائزة سياسية تصحح ما تعرضوا له من تهميش قبل مائة عام فى اتفاقية «سايكس بيكو»، لكن على أنقاض العالم العربى.
وللروس رهانات أخرى تتعلق مباشرة بحدود القوة والنفوذ فى الإقليم ومعادلاته، دون أن يكون لهم موقف نهائى فى أى ترتيبات مقبلة، كل شىء سوف يخضع للموازنات والصفقات وفق الحقائق على الأرض.
بمنطق الموازنات والصفقات قد لا يكسب الأكراد ما يتمنونه، غير أن سوريا والعراق واليمن وليبيا لن يعودوا كما كانوا.
إذا ما مضى سيناريو الحسم المزدوج للرقة وحلب إلى آخره فإننا سوف نكون أمام وضع يشبه ــ فى رمزيته لا طبيعته ــ ما تعرضت له العاصمة الألمانية برلين عند نهايات الحرب العالمية الثانية، حيث اجتاحتها القوات الروسية من الشرق والقوات الأمريكية من الغرب، وعند خطوط التماس جرى تقسيم ألمانيا إلى ألمانيتين.
ليس هناك ما يمنع مثل هذا السيناريو، التقسيم بقوة الحضور المسلح للقوتين الكبيرتين وتقاسم المصالح مع اللاعبين الإقليميين، وربما لاعبين صغار يحملون السلاح.
بمعنى آخر، فإن حسم الحرب مع «داعش» بداية حقيقية لخرائط جديدة فى المشرق العربى تمتد بزلازلها إلى مناطق أخرى.
وذلك يشبه فى ظروف جديدة الوضع الذى كانت عليه الإمبراطورية العثمانية، رجل العالم المريض، عند تقسيمها وفق تفاهمات سرية بريطانية ــ فرنسية ــ روسية قبل أن تخرج موسكو من اللعبة كلها عقب الثورة البلشيفية (١٩١٧)، وأخرجت من أرشيفها ما يؤكد الصفقة الملعونة، التى اشتهرت باتفاقية «سايكس بيكو»، لتقسيم النفوذ بين الإمبراطوريتين السابقتين.
لفترات طويلة نسبيا طرحت مشروعات التقسيم نفسها على مراكز الأبحاث، ونشرت خرائط متصورة لتقسيم العالم العربى فى صحف أمريكية نافذة مثل «النيويورك تايمز» عام (٢٠١٣)، التى توقعت تقسيم العراق وسوريا وليبيا والسعودية إلى (١٤) دويلة على أساس مذهبى وطائفى، وربما يرتفع الرقم بتدهور الأحوال المطرد فى العالم العربى.
عند التقسيم المتوقع لن تكون هناك جامعة عربية أو نظام عربى آخر، ولن يسمح بحديث عن عمل عربى مشترك وتنكفئ مراكزه على نفسها، تتجرع حسرتها على ما آلت إليه.
أسوأ ما سوف يحدث أن التقسيم هذه المرة سوف يكون بـ«البلطة» لا بـ«الورقة والقلم» ــ حسب تشبيه الزعيم الدرزى اللبنانى «وليد جنبلاط».
أرجو ألا ننسى أن وعد «بلفور» بوطن قومى لليهود على أرض فلسطين، أعقب توقيع اتفاقية التقسيم الأولى.
من المتنظر فى عملية التقسيم الثانية إنهاء القضية الفلسطينية وأى حقوق فى العودة، وتهويد القدس بالكامل، وضم مناطق واسعة من الضفة الغربية للدولة العبرية، بالإضافة إلى الجولان السورية.
السيناريوهات المرعبة تعلن عن نفسها دون أن تجد استجابة ما من رجل فى غرفة عناية فائقة، لا يشعر بما حوله، ويعجز عن أى نهوض يقول فيه: «أنا هنا».

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved