بيروت مَدينةُ الشَّوك والوَرْدِ

العالم يفكر
العالم يفكر

آخر تحديث: الجمعة 30 أكتوبر 2020 - 9:45 م بتوقيت القاهرة

نشرت مؤسسة الفكر العربى مقالا للكاتبة رفيف رضا صيداوى.. نعرض منه ما يلى.

يقينًا إنّ بيروت هى المدينة الأكثر إثارةً للجدل من بين مُدن عربيّة عدّة. والسبب الأساس ربّما يكون عائدا إلى العلاقة الإشكاليّة والمُلتَبِسة التى تربط هذه المدينة بناسها.
انفجار مرفأ بيروت فى الرّابع من شهر أغسطس الفائت، الذى صنَّفه الخُبراء بوصفه أحد أكبر الانفجارات التى أصابت مُدنا أخرى فى العالَم فى التاريخ الحديث، الانفجار الـ «هيروشيمى» على حدّ تعبيرهم، جاء «كالقشّة التى قصمت ظهر البعير». جاء فى ظروف يُعانى منها لبنان من أزمة اقتصاديّة حادّة تكاد تهدِّد وجودَه، وأزمات اجتماعيّة حوَّلت حياة المُواطنين فيه إلى جحيم، وطبقة سياسيّة صمَّت آذانها عن شعار «الشعب يريد إسقاط النظام!» الذى صدحت به حناجر المُتظاهرين منذ انطلاق حراكهم المُهيب يوم السابع عشر من أكتوبر الفائت.
لقد نجح إرساء النظام الطائفى قبل حرب العام 1975، فى أن يكون الضمانة الأكيدة للحفاظ على مصالح الطبقات الحاكِمة وديمومتها، لا ضمانة لديمومة الدولة والأمان. فشهدَ لبنان سلسلة أزمات وحروب صغيرة وكبيرة، تعود إلى الأعوام 1958 و1967، وحرب العام 1975 التى انتهت بحرب التحرير (آذار 1989)، ثمّ حرب الإلغاء (يناير 1990)، فضلا عن الاجتياحات الإسرائيليّة للبنان (اجتياح مارس 1978 ويونيو عام 1982، وعدوان يوليو 2006.. إلخ)، ناهيك بسلاسل الاغتيالات التى كان اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريرى فى العام 2005 أكثرها فداحةً لجهة تداعياته الأمنيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة المُستمرّة حتّى الآن.

فى أزمة مدينة
انفجار مرفأ بيروت كان بمثابة الإعلان الرمزى عن تصدُّع صيغة التعايُش والتوازُنات، على الرّغم من كلّ محاولات السلطة السياسيّة لإنعاشها. وكأنّنا بشعبٍ لم تعُد شريحة واسعة منه ومن نُخبه الثقافيّة تَثِق بإمكانيّة «التسويات»، وسواء أكانت تسويات بين أطراف السلطة الطائفيّة والمذهبيّة والعائليّة، أم بين السلطة وشريحة واسعة من القاعدة الشعبيّة. هذه الشريحة التى بدت، ومن خلال انتفاضتها التى بدأت فى السابع عشر من أكتوبر 2019 ولم تنطفئ.
هذه باختصار أزمة مدينة/ وطن جعلت علاقة ناسها بها علاقة مُلتبِسة ومُتناقِضة ومُنهِكة. مدينة مُغايرة تماما للصورة التى أرادها لها مثقّفوها ومُواطنوها الصالحون. فلم تُجسِّد البتّة حُلمهم ولا حلم الفقراء الذين لطالما لفظتهم الدولة من رَحَمِها، لتقذف بأعدادٍ منهم فى رَحَم الجماعات الميليشياويّة والطائفيّة والعشائريّة والمناطقيّة والعائليّة؛ حيث أفضى المكوِّن العصبيّ الطائفيّ القبليّ العشائريّ والعائليّ هذا إلى احتكام «العقْد الاجتماعى»، المُستند إلى منطق التعايُش، لمُعادَلة اللّا غالِب والّلا مغلوب، والتى تشكِّل بدَورها تهديدا دائما للدولة وللسِّلم الأهلى فيها، وعنصرا مولِّدا للعنف والاقتتال والسيطرة، من دون أن يكون القانون ضمانةً دون تحوُّل هذه الكيانات ما قبل القانونيّة إلى كياناتٍ مهدِّدة للأمن الاجتماعيّ.
لكنّ هذه الصورة السوداويّة للاجتماع اللّبنانى قابلتها صورةٌ مُشرقة جسَّدتها بيروت كعاصمة للثقافة والفنّ وحُبّ الحياة والإيمان بها، وكحاضنة لأفضل الجامعات والمَدارس والمؤسّسات الثقافيّة والفكريّة والمَتاحف... إلخ، وكقلبٍ مفتوح على العالَم، قلب تحتضن مقاهيه ومَسارِحه ودُور سينماته وسائر فنونه نبضَ الحداثة المتغيّر على قاعدةٍ لبنانيّة عربيّة أصيلة.
لطالما عاشت بيروت بوجهَين. درّة الشرقَين التى اشتهرت بجمالها، من دون أن يُخفى جمالُها بشاعاتِها، واشتهرت بانفتاحها من دون أن تكون مُتحرِّرةً من جميع قيودِها، لم تكُن بمستوى أحلام ناسها. لفظتهم وأَخفت كلّ بشاعاتها خلف وجهها البرّاق.
بيروت الحُلم بيروت الجميلة بناها ناسها وفنّانونها ومثقّفوها ومفكّروها وعُلماؤها. فبَرَعَ روائيّوها وروائيّاتها مثلا، وبما أُتيح لهم من قدرة على الإبداع وتشكيل عوالِمهم المرجوَّة، فى إعادة خلْقها. فاغتنت الرواية اللّبنانيّة بنصوصٍ إبداعيّة كاشفة عن ازدواجيّة وجه بيروت؛ إذ ليس فى وسع الأدب تفادى هذا الإغواء فى كشْف المستور.
بيروت الجميلة بناها ناسها الذين أحبّوها وأحبّوا عراقتها ونسيجها الاجتماعى الذى اكتسى جماله من تعدّديّتها واختلاط طوائفها ومَذاهبها، وأحبّوا بَحرها ومَرفأها وشوارعها وأرصفتها وبيوتها وكلّ ركن فيها حيث تتجذَّر الذاكرة وتحيا، فلم يبرحوا أماكن الطفولة والصبا على الرّغم من مُعاناتهم من حالة انعدام تكيُّف معها.
لم تكفّ مدينةُ بيروت إذا عن أن تكون مدينةَ شَوْكٍ ووَرْدٍ، تحكم الازدواجيّةُ علاقةَ الناس بها، وذلك بمقدار ما يحمله النظام السياسى والاقتصادى والاجتماعى للبنان من ازدواجيّة: علاقات مُلتبِسة يمتزج فيها التقارُب والتنافُر، الجذْب والطّرد، الجمال والقبح، الماضى والحاضر، التقليدى والحديث... لكنْ يبقى حُبّ بيروت بحجْم حُبّ الوطن، على الرّغم من كلّ مساوئه.
صخرة بحر بيروت التى وصفها الشاعر جوزيف حرب «كأنّها وجه بحّارٍ قديم»، وجعَلَها سعيد عقل معلّقةً بالنجم تشهد على مجْد لبنان، أصبحت بعد انفجار المرفأ مشهدا من ميثولوجيا إغريقيّة يروى كيف شوَّه الشرُّ والفسادُ وجه مدينة عريقة وابتلعَ النّظام حُلم أبنائها بعَيشٍ كريم فى وطنٍ يحتضن أبناءه من دون تمييز. فهل يكون هذا الانفجار إيذانا بتسوية جديدة كأخواتها السابقات أو سببا يا ترى لتغييرٍ حقيقيّ يؤسِّس للبنان جديد، فتنبعث هذه المرّة أسطورة نهوضه من أرضٍ صلبة؟

النص الأصلى:

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved