عَمَّا فَعَلَ الحَجَر

بسمة عبد العزيز
بسمة عبد العزيز

آخر تحديث: الجمعة 30 أكتوبر 2020 - 9:45 م بتوقيت القاهرة

قبل أعوام رُمِيَت الأحجارُ الأولى؛ فاكتسب الرماةُ شهرةً واسِعةً، ونالوا حظًا وافرًا مِن التعاطُف والتأييد؛ لقيت المُقاومةُ بسلاحٍ مَحدود الأذى رَمزيُّ الأثرِ؛ صدى إيجابيًا على مُستوى العالَم، وفي مُواجهة حاملي الرشَّاشات وأصحابِ الصواريخ والطائرات، والذخيرةِ الوافرةِ المُتجَدِّدة؛ كانت الحجارةُ قوةً، والرصاصةُ ضَعفًا. تجدَّد الأملُ مَراتٍ ومَرَّات، ثم تكرَّر المَشهدُ بتداعياتِه دون إحراز انتصارٍ حقيقيّ أو تقدُّمٍ مَشهود؛ فبهتت قوةُ الحِجارةِ بمُرورِ الوقتِ، وسادت رائحةُ البارود.
***
تحوَّل الحَجَرُ مع مُضيّ السنواتِ إلى عنوان ضَعفٍ وقِلَّة حِيلة، لم يعد مُبهرًا ولا جاذبًا في أعين المتابعين. خَفت الزخمُ وفترت هِمَّةُ المتحمسين وتضاءل عددُهم حتى أوشكوا على الانقراض.
***
ضاقَ الصَّدرُ بالوَجَع المُزمِن ولم يَعد فيه مُتَّسع للشُّجون. انبرى نَفرٌ مِن الناس يُعلن أن القضيةَ الفلسطينية لا تخُصُّ إلا الفلسطينيين، ونفرٌ يُبرِّر التخَلّي عن المَوقِف العربيّ مِن عدوٍ قديم، ونفرٌ لا يكُف عن لَومِ الآخر، وأخيرًا نفرٌ يَتصالح ويَحتضن ويُعانِق؛ لا يستحي ولا يتخذ لفعلتِه سترًا أو حجابًا.
***
أسئلةٌ كثيرةٌ يدفع بها الوضعُ الراهِن لتطفوَ على سطحِ الذاكرةِ؛ لا طمعًا في الإصلاحِ والتعديل؛ بل رغبةً في مَعرِفة مَوطِن الخطأ، وعِلّةِ الأهلِ الذين ما بَرِحوا يتساقطون. هل أن العدوَّ أكبرُ وأذكى وأمهرُ، وأعظمُ قوةً وإيمانًا وصلابة؟ هل أن تراخيًا وخُمولًا أصابا أصحابَ الشأنِ لفرطِ ما كابدوا وعانوا؟ هل سأمٌ مِن مُناوشاتٍ لا تنتهي يُشاركُ فيها القاصي والداني، أو هي الخيانات المُتواليةُ أبقت الأرضَ مُحتلَّةً مَغبونة؟ هل أن فكرةَ التحرير سِلمًا؛ عبرَ أناشيدٍ ورُموزٍ، وشهداءٍ صغار وكبار وهتافات ولافتات؛ مَحضَ حلمٍ طوباويّ ساذج، لا يصدِّقه إلا المثاليون؟
***
الحقُّ أن الحَجَر مُلهِم، وأن الحُلمَ جائزٌ مَشروع؛ لكن تكاتفًا قد انقلب تنافرًا برحيلِ الأولين، واتحادًا قد استحال عزلة وانفرادًا، وعزمًا أُطلِقَت فيه المَعاول؛ فدكَّته وفتَّته وجعلته أنقاضًا. بلدٌ وراء بلدِ يستسلم، وعَلَمٌ كان محظورًا؛ يُرفع على السواري ويُحَيَّى بانشراح، وحظرٌ يَقع على الجارِ؛ ولا ينال العدوَ بنتفةٍ مِن أذى، وحديثٌ تُفرَد له صفحاتٌ وبرامجٌ وإذاعاتٌ؛ يُؤسَف له أسفًا عميقًا هائلًا.
***
درسنا فيما درسنا حكايةً قصيرةً بَدت في حينها عاديةً تافهة؛ رجلٌ يجمع أولادَه وهو على فراشِ مَرَضٍ؛ فيُريهم حِزمةَ حَطَبٍ، ينكسر كُلُّ عودٍ منها بمفرده في يُسر وبساطة، بينما يتعذر كَسرُ الحزمةَ مُجتمِعة. تكرارٌ الكلامِ مُرهِق ومُثير لمَلَل القارئ والكاتب معًا، إنما ما باليدّ حيلةٌ؛ الاتحاد مع الجارِ قوةٌ، والتكامُل الاقتصاديّ والجُغرافيّ هدفٌ تسعى إليه شتَّى الدُّوَل؛ صُغرى أو عُظمى، أما عن تعزيز الفُرَص ودَعمِ العَلاقاتِ بين بَلَدٍ وآخر؛ تجمعهما لغةٌ واحدةٌ ويضُمُهما تاريخٌ مُشتَرك؛ فأمر لا يختلف عليه أحدٌ؛ لكنه صارَ مع تداعي الأفكارِ الكُبرى، وتنامي نزعاتُ الفُرقةُ والعَصبية، وسواد المصالح المحدودة الضيقة؛ حديثًا غير مُستَحَب.
***
تبعثرت الأوراقُ واختلَطَت؛ صار الصَديقُ عَدوًّا، والعَدوُ صارَ مَعشوقًا؛ يتسابق لنيلِ رضائهِ الجميعُ، فيما الألسنةُ تَلهَج بحَمدِ مَن لا يستحقُ الحمدَ، وتنطُقُ خليطًا مِن لُغاتٍ لا تتقِنُها، وتتباهى بعثراتِها إذ تستعمل لغتَها الأصيلةَ، وتمضي فتهدر ما بقي من كرامة وتستقبل بالمدائح من اكتست يداه بالدم. الضَّيفُ مَحَلَّ السخاءِ والترحيب؛ الحاضر على موائد الطعام بيننا، والمَسقِيّ في مستقبل قريب من مِياهنا؛ ليس سوى المُحتَل الغاصِب.
***
كنت أراها من المُبالغات؛ قولةَ أن مِصر ما حَادت عن المَسار، حاد مِن بعدها الجميعٌ وتهاوى البناءُ، أما وقد تحقَّقَت كلماتُ حافظ ابراهيم، وانخفضَت الرؤوسُ وانحنَت الجِباه؛ فمُراجعةٌ واجبةٌ لتاريخٍ راكمناه، وشبَبْنا نحفظه ولا نعقِله.
***
الحَجَرُ أدَّى واجبَه، وأنتجَ في المياه الآسنةِ دوائرَ مُتعدِّدة؛ لكنه وحدَه لا يكفي لإحداث تغيير، لا سيما والمَنظومَة العالمية الجديدة تتشكَّل؛ وِفقَ مَبادئ لا تعترف بقيمَتِه ومَكانتِه.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved