الكورونا والليبرالية الجديدة.. البقاء للأقوى

محمود الخفيف
محمود الخفيف

آخر تحديث: الجمعة 30 أكتوبر 2020 - 9:45 م بتوقيت القاهرة

بدأ انتشار جائحة الكورونا فى شهر مارس الماضى ولم يكن الاقتصاد العالمى قد تعافى بعد من الأزمة المالية العالمية التى اندلعت فى عامى 2008/2009، ويرجع عدم التعافى هذا إلى وصفة علاج الليبرالية الجديدة، التى تبنتها الدول الغربية والبلدان النامية المنغمسة فى أعماق صندوق النقد الدولى، حيث لم تعمل حزمة سياسات تلك الوصفة على إصلاح الأوضاع الاقتصادية فى العالم بل زادت من هشاشتها وتجذرت العولمة وتضخمت الأمولة وازداد تركيز الثروات فى يد الأغنياء واحتدم استقطاب عدم المساواة على المستويين الدولى والمحلى.
وفى ظل هذه الظروف يدخل الاقتصاد العالمى فى أزمة جديدة حادة لم يسبق لها مثيل حتى الآن ولم تظهر بعد كل تداعياتها، حيث اختارت معظم حكومات العالم سياسات وإجراءات لمواجهة فيروس الكورونا أدخلت الاقتصاد العالمى والاقتصادات الوطنية فى حالة ما فوق الشلل أو الغيبوبة. وفى «تقرير التجارة والتنمية» السنوى، الذى أصدره مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد) فى أوائل شهر سبتمبر الماضى، أُطلق على هذه الحالة «بـالإغلاق العظيم». ويؤكد التقرير أن مفتاح نجاح أى إستراتيجية لمواجهة فيروس الكورونا هو مواجهة العلل التى كانت موجودة قبل الجائحة: تباطؤ النمو، تراكم الديون، تركيز الثروة فى أيدى قلة قليلة وعدم المساواة، الركود فى الأجور وازدياد نصيب الأرباح، ضعف الاستثمار فى القطاعات الإنتاجية، وعدم كفاية الوظائف فى القطاعات المنتجة فى الاقتصاد الرسمى.
وقد أدى ذلك إلى ركود اقتصادى غير مسبوق فى سنة 2020، لا مثيل له منذ الكساد العظيم فى ثلاثينيات القرن الماضى ما بين الحرب العالمية الأولى والثانية. فقد كان من المتوقع أن ينتعش النمو الاقتصادى هذا العام، ولكن بعد الكورونا وسياسة الإغلاق العظيم فمن المقدر أن تصل الخسائر إلى 4% من حجم الاقتصاد العالمى على الأقل، أى حوالى 6 تريليونات دولار، وهذا يعادل ضياع اقتصاد كل من الهند والبرازيل والمكسيك أو فقدان الاقتصاد المصرى 20 مرة. ومن المقدر أن تتقلص التجارة العالمية بمقدار الخُمس (20%)، وأن يتراجع الاستثمار الأجنبى المباشر بمقدار الخُمسين (40%)، وأن تنخفض تحويلات المقيمين خارج أوطانهم بحوالى 100 مليار دولار، وكذلك من المقدر أن تتقلص حركة السياحة بما يقارب الثلثين (60%)، وستتراجع الصادرات البترولية وغير البترولية بشكل حاد، وبطبيعة الحال ينسحب هذا الوضع على مصر ومعظم البلدان العربية سواء أن كانت نفطية أو ذات اقتصادات أكثر تنوعا. وبالنسبة للآثار على العمالة فهى ضخمة إن لم تكن مخيفة، حيث تشير تقديرات منظمة العمل الدولية إلى أن الأزمة تهدد 500 مليون وظيفة على مستوى العالم ومن المتوقع أن تختفى أكثر من 100 مليون وظيفة مع نهاية هذا العام.
***
وفى الشهور الأولى من الجائحة، استطاعت دول مجموعة العشرين (أكبر 20 اقتصاد فى العالم) أن تتبنى حزم إنعاش اقتصادى بلغت قيمتها 13 تريليون دولار، وذلك بإصدار وطباعة نقد من خلال سياسة تيسير كمى (quantitative easing) بدون تكلفة أكثر من ثمن الطباعة. وبطبيعة الحال سيؤدى ذلك إلى زيادة السيولة العالمية وسيتدفق جزء ليس بقليل منها كديون للبلدان النامية التى لا تستطيع إصدار وطباعة نقد بدون تهديد التضخم وانهيار قيمة العملات الوطنية.
وفى المقابل، الوضع فى غاية الخطورة لشعوب العالم النامى، حيث يتقزم حيز السياسات المتاح لصانع القرار الوطنى، نظرا للمشروطيات المقيدة من قبل صندوق النقد والبنك الدوليين، وتتضاءل الإيرادات والحيز المالى المتاح لتلبية الاحتياجات المتزايدة التى تفرضها ضرورات التعامل مع فيروس الكورونا، وستتراجع بشدة صادرات بالبلدان النامية وعائداتها من السياحة. ومن المتوقع أن يزداد العجز المالى لتلك الدول إلى ما بين 2ــ3 تريليون دولار والذى سيترجم إلى زيادة فى الديون بنفس القيمة، حيث سيتم تمويل معظمها من سيولة الـ 13 تريليون دولار التى طبعتها الدول الغربية بدون تكلفة تذكر، فى حين أن هذه الديون سوف تُسدد بأموال وموارد حقيقية من جهد وعرق وثروة شعوب العالم الثالث. هذا مع العلم أن الحجم الحالى لديون العالم النامى يتراوح ما بين 2,6 إلى 2,9 تريليون دولار، أى أنه من المتوقع أن يتضاعف حجم هذه الديون فى عام واحد فقط.
وطبيعى أن تضعف قدرة البلدان النامية على سداد ديونها وتزداد التبعية للدول الدائنة وشروط الصندوق والبنك الدوليين، وأن تتزايد معدلات الفقر فى هذه البلدان الآن وفى المستقبل (بسبب سداد الديون)، فمن المتوقع أن يسقط ما بين 90 إلى 120 مليون إنسان فى دائرة الفقر المدقع وأن يعيش أكثر من 300 مليون من البشر فى حالة انعدام الأمن الغذائى، وفى ذات الوقت ستتسع الهوة بين الأغنياء (بفحش) والفقراء والطبقة المتوسطة.
ويحذر تقرير الأونكتاد أنه لا مفر مما سماه «عقد ضائع جديد» إن لم يكن هناك تغير حقيقى فى السياسات الاقتصادية والتنموية. فإذا أردنا تفادى «عقد ضائع» آخر وإذا أردنا بإخلاص الوصول إلى أهداف التنمية المستدامة بحلول عام 2030، فلا بد من تغيير الفلسفة الاقتصادية السائدة. والأمر فى نهاية المطاف هو خيارات سياساتية، ولكن حزم الإنعاش الاقتصادى مع سيطرة الليبرالية الجديدة واستمرار سياسة التيسير الكمى (طبع النقد فى الدول الغربية) والتقشف المالى والاعتماد على الأسواق (التى يسيطر على معظمها قوى احتكارية) وتقليص دور الدولة لن يؤدى إلا إلى المزيد مما وصل إليه العالم النامى قبل جائحة الكورونا، وسيكون «البقاء للأقوى» وليس الإصلاح، فالعودة إلى نفس السياسات سيؤدى إلى مزيد من الاحتكار ومزيد من تركيز الثروة ومزيد من التبعية ومزيد من السعى وراء الريع والتربح والمضاربة والاستثمار المالى وليس السعى خلف الإنتاج والاستثمار الإنتاجى والتنمية الحقيقية.
***
المطلوب هو إنعاش اقتصادى شامل ومستدام، وهذا يتطلب من الدول الغربية الغنية، أن تقوم بدورها وتوفى بالتزاماتها، وأن تقدم الدعم الكافى للبلدان النامية لمواجهة ضغوط الكورونا المالية بدون المزيد من الاستدانة. وعلى كل بلدان العالم، ولكن بالأخص بلدان العالم الثالث، أن تتبع سياسات اقتصادية توسعية تركز على خلق فرص عمل وزيادة الأجور وتوفير استثمارات حكومية ضخمة فى القطاعات الإنتاجية (صناعة وزراعة وتكنولوجيا) والقطاعات الاستراتيجية القادرة على خلق فرص عمل لائق الآن وفى المستقبل.
إن التركيز فقط على التجارة والتصدير والاستثمارات العقارية وجلب الاستثمار الأجنبى والسعى وراء الريع لن يساعد على تحقيق تنمية حقيقة ومستدامة وذات قرار مستقل بدون تبعية، بل سيزيد من تركيز الثروة فى أيدى حفنة الأغنياء (الأقوياء والمسيطرون)، وسيضعف من قدرة الغالبية العظمى من المواطنين على المساهمة الفعالة فى الاقتصاد وبالتالى سيضعف الطلب الكلى الضرورى للنمو الاقتصادى.
وكذلك يجب على بلدان العالم الثالث التركيز على سياسات تهدف الِى زيادة نصيب الأجور فى مواجهة نصيب الأرباح بما يحقق توزيع أكثر عدالة وأكثر إنصافا للدخول والثروات ويحد من عدم المساواة المتزايد، وبالتالى يؤدى إلى زيادة الطلب الكلى مما يساعد على تدوير عجلة الاقتصاد ويسرع من وتائر التنمية المستدامة. إن تحقيق العدالة الاجتماعية والسيطرة على عدم المساواة المتزايد والمخل ليس محض هدف أخلاقى أو اجتماعى فحسب، بل هو فى الأساس من أصول السياسة الاقتصادية التى تعزز التنمية المستدامة والعادلة وغير التابعة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved