كونوا بخير وصفقوا

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: السبت 30 أكتوبر 2021 - 9:25 م بتوقيت القاهرة

خلال مهرجان أو حدث كبير يمتد على مدار أيام، تتعدد الحفلات والجلسات بشكل مكثف، وتكون مراقبة أداء الجمهور من الأشياء المحببة جدا بالنسبة لى. التفاعل والتصفيق فى المسارح وقاعات العرض هما من مظاهر هذا الأداء الذى يسمح ربما باستكشاف المزاج العام أو قياس ردة الفعل حين يكون الناس مجتمعين. مثلا خلال العرض العربى الأول لفيلم «أميرة» للمخرج محمد دياب فى مهرجان الجونة مؤخرا، صفق الجمهور الجالس فى الهواء الطلق، أثناء مشاهد بعينها، وهى بنظر أى متلقٍ حصيف أجزاء ضعيفة دراميا ساهمت فى إرباك الفيلم، لكنها تدغدغ مشاعر البعض أو تجعلهم يبدون بمظهر الداعمين للقضية الفلسطينية، وبالتالى يشعرون أن التصفيق هو واجب قومى أو دليل على المساندة الأبدية لحقوق عادلة، بغض النظر عن القيمة الفنية لما يقدم. المزايدة هنا بالتصفيق من قبل فئة من الجمهور اعتادت الكلام «الحنجورى» جاءت لمساندة «أميرة» الفتاة الفلسطينية اليافعة المتمردة ذات السبعة عشر ربيعا التى اكتشفت أن والدها الأسير فى السجون الإسرائيلية، والتى طالما افتخرت به، ليس والدها الحقيقى. فكرة الفيلم فى حد ذاتها جيدة وهى مستلهمة من الواقع، إذ تتعرض للسجناء الفلسطينيين الذين يلجأون لتهريب نطفهم المنوية لكى تصل إلى أسرهم خارج المعتقل ويتمكنوا من الإنجاب، ما يمثل تحديا كبيرا للظلم ويحمل رسالة حرية ورغبة فى الحياة.
نشاهد أميرة وهى تزور أباها بمصاحبة أمها، تراه عبر الزجاج المقوى وتتحدث معه عبر الهاتف، وفى عينيها حب وفخر وتعلق. يطلب من زوجته أن يكررا التجربة لكى يأتيا لأميرة بأخ أو أخت، ترفض فى البداية لأنها لا تقوى على الخوض من جديد فى كل هذه التفاصيل المعقدة، لكنها فى النهاية ترضخ لرغبته. وعند القيام بالفحوصات اللازمة، بعد تهريب النطفة، يتضح أن أميرة ليست ابنة أبيها، وتبدأ رحلة البحث والشك والاتهام، وهنات كتابة السيناريو. القصة كانت جديرة بمعالجة فنية أفضل من مخرج سبق أن قدم فيلما محكما مثل «اشتباك» قبل عدة سنوات، حول موضوع شائك وهو حالة المجتمع المصرى بعد ثورة يناير.
***
يصفق الناس لأميرة حين تقرر القيام بعملية استشهادية لتنتقم من سجان أبيها المزمع الذى قام بتبديل النطفة فى المعتقل، لتصير هى ابنة الجلاد، لا يقبلها المجتمع فتذهب لحتفها، ويتصاعد التصفيق، وهو موضوعنا الأساسى وليس الفيلم. بالطبع فى كثير من الأحيان يكون التصفيق مُعديا، يبدأ أصدقاء الفنانين الموجودين فى القاعة أو بعض المتحمسين ويتبعهم آخرون، فالتصفيق والتهليل أمر ينتشر كالنار فى الهشيم، طالما انطلق من نقطة ما. وذلك يفسر ظاهرة «المطبلاتية» أو وجود «المصفقين» المأجورين تاريخيا عبر العصور المختلفة ومن عهد أباطرة اليونان وقياصرة الرومان، فمن أيامهم عرفنا التصفيق، خلال العروض المختلفة على المسارح المكشوفة: مصارعة ودراما وتجمعات سياسية... بل كان من الدارج أن يتوجه الممثل الرئيسى فى المسرحية إلى الحضور مع نهاية العرض ليشحذ الحماسة فى الصفوف، قائلا: «كونوا بخير وصفقوا» (Valete et plaudite).
فى روما القديمة، كان نيرون الذى يعشق المسرح والوقوف عليه يحشد الآلاف من جنوده لكى يصفقوا عند ظهوره، للدلالة على شعبيته، ففعل التصفيق فى أوقات كثيرة يستخدم مثل استطلاعات الرأى لقياس موافقة الشعب على أمر ما، وكأنه اقتراع بالتصفيق له ما له وعليه ما عليه. كذلك فى القرن السابع عشر الميلادى استعد الإمبراطور البيزنطى هرقل لملاقاة ملك البرابرة بإضافة عناصر جديدة إلى قواته، ليس بالضرورة لبراعتهم القتالية، ولكن من أجل التصفيق وإحداث ضجة يبهر بها خصمه. يدمن البعض أصوات التصفيق وتهليل الجمهور، وتكون للأنظمة السياسية دور فى طبيعة وطريقة التصفيق، فشفراته السرية تختلف بحسب المجتمعات، إذ إن الناس فى روما لا يصفقون كما فى برلين أو القاهرة. لاحظ المراقبون أن جماهير دول الكتلة الشيوعية سابقا مثلا تصفق أسرع وبشكل متزامن ومتناغم، وكأننا أمام فريق كورال. ولا يعنى ذلك بالضرورة أن شعوب الدول الأخرى الأكثر ليبرالية تصفق دائما على نحو عفوى، فالأمر لا يخلو أحيانا من تحضيرات نفسية وتأهيل طويل الأمد وحشد لتخرج الصورة بشكل مُحكم أو تبدو أكثر تحضرا كى «يظهروا بمظهر خير ويصفقوا».
•••
يصفقون وهم يستمعون للموسيقى الكلاسيك فيكون للوقفات والسكتات قواعد متعارف عليها، لا يجوز مثلا التصفيق إلا فى نهاية السيمفونية لأن إظهار الإعجاب بعد كل حركة من حركات العمل المتكامل قد يشتت العازفين أو يقلل من متعة الاندماج والتلقى، والوضع مختلف بالنسبة للأعمال الأوبرالية التى تحتوى على أغنيات خفيفة تحتمل التفاعل معها تلقائيا، إلى ما غير ذلك. لكن الأمر ليس دائما بهذه الصرامة فهناك فى القاعة من يفاجئنا أحيانا، سواء لأنه مستجد يجهل القواعد أو لأنه ببساطة لا يتبع القطيع: لا يضحك معهم ويصفق حينما يريد. صحيح أن الآخرين قد يشعرونه بالدونية أو أنه قد يتعرض للإحراج لكنه يفعل ما يشعر به، يصفق من فرط إحساسه بعذوبة مقطوعة موسيقية أو لتأثره بدموع بطلة فيلم أو لتشجيعه صناع العمل وهو يعرف أنهم ليسوا متواجدين فى القاعة. جلس طويلا وتابع الأحداث أمام الشاشة وعبر عن ارتياحه للنهاية أو عن سعادته بأنه غير مضطر للتركيز والجلوس فى صمت. حاله مثل حال الذى يصفق لكابتن الطائرة لأنه أحسن الهبوط، فى حين لا يسمعه الطيار على الأغلب، لكنه هو شخصيا يبتهج لوصوله بالسلامة ويحتفل بكونه لا يزال على وجه الحياة، يشكر الطيار والأرض التى تلقفته، مثلما دأب الناس مع أزمة الكورونا أن يصفقوا للطواقم الطبية فى بعض الدول بالوقوف فى الشرفات خلال ساعة محددة لتقديم الشكر والتعبير عن امتنانهم على أنهم ما يزالون على قيد الحياة، يصفقون لكى يكونوا بخير وليؤكدوا على وجودهم، ثم يصبح التصفيق حالة جماعية ولا نعرف من الذى بدأ.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved