هل من أهمية لإعادة التفكير فى بعض البديهيات؟

إكرام لمعي
إكرام لمعي

آخر تحديث: الجمعة 30 نوفمبر 2018 - 11:35 م بتوقيت القاهرة

هناك سؤال قديم جديد يقول هل من علاقة بين الكتب المقدسة التى تعلن رسالات الله إلى البشر وبين تنظيم حياة المجتمعات الاقتصادية والصحية والسياسية... إلخ؟ وهل هذه الأمور تكون مقصودة بعينها وبالتالى تصبح مقدسة أم أن المقدس هو فقط اللاهوتيات والفقه والعبادات أما الأمور الأخرى كالنظام الاقتصادى والسياسى والعلاقات الاجتماعية وأنظمة الحكم ليست على نفس الأهمية نظير المقدسات؟.
فى كتاب مارفن هاريس «مقدسات ومحرمات وحروب» محاولة للإجابة على مثل هذه التساؤلات. لكن قبل أن نتحدث عن هذا الكتاب علينا أن نعرض تصدى جون كالفن ومعالجته لهذه الفكرة، وكالفن واحد من أهم مصلحى الكنيسة فى القرن السادس عشر وقد حكم مدينة جنيف بمجموعة من المثقفين المتدينين ورجال دين وركز على أهمية أن يقوم المؤمنون بالنشاط الاقتصادى لأنهم سيكونون أكثر أمانة وخوفا على الدولة وقد أيد ما يقوله بنصوص من الكتاب المقدس وهكذا توسع كالفن فى صناعة النسيج وإنتاج الحرير ومالت المراكز التجارية إلى الاقتصاد الحديث حينئذ والذى يحض عليه الكتاب المقدس مطالبا الإتقان ورفض الربح القبيح الذى يكون على حساب الفقراء وقد أيدته فى ذلك الطبقات الوسطى. وهكذا تحول نوع من النشاط الاقتصادى إلى منظومة الحلال والحرام وبالعودة إلى كتاب هاريس يذكر أن العهد القديم من الكتاب المقدس والقرآن اعتبرا أن المرأة الحائض نجسة وليس عليها أن تتعبد حتى ينتهى حيضها وكذلك عليها ألا تتعبد بعد أن تلد لمدة أربعين يوما وبالطبع كان ذلك لأسباب صحية وأيضا يتفق القرآن والعهد القديم على أهمية الغسلات (الوضوء) قبل الصلاة وهناك كثيرون رصدوا فى الكتب المقدسة توجها أصيلا عقلانيا للسلوك الإنسانى فى تفاعله مع المعتقدات الدينية، وبالنظر بعمق وتحليل اكتشفوا أنها محاولات لحماية الموارد وتنظيمها بإيجابية، وتحويل الأعمال والأفكار المفيدة إلى مقدسات دينية، أو فى عبارة أخرى مواجهة الإغواء الذى يضر المنظومة الاقتصادية من ناحية والبناء الاجتماعى من الناحية الأخرى والنظام السياسى (الخروج على الحاكم مثلا) من ناحية ثالثة بالتحريم الإلهى، وهكذا قاموا بتوظيف المحرمات والمقدسات لصالح الأنشطة الاجتماعية والاقتصادية، وبالطبع فإن هذا المنهج منهج قديم كمحاولة للفهم العملى والعقلانى للدين سواء من جانب اللاهوتيين والفقهاء أنفسهم أو من علماء الاجتماع والانثروبولوجيا.
وعلى سبيل المثل، فإن تحريم ذبح الأبقار فى الهندوسية وتحريم لحوم الخنازير فى اليهودية والإسلام يعكسان نظاما اقتصاديا وبيئيا ملائما، فالحفاظ على حياة الأبقار يتضمن فوائد اقتصادية كثيرة تفوق ذبحها حتى لو كان فى ذلك تضحيات وخسائر كما يبدو، ذلك أن البقرة تلد أبقارا، ويشكل الثور عمدة الحياة الزراعية فى الهند للجر والحراثة، ومن دونه فإن المزارع يفلس، وتقدم البقرة الحليب للطعام، كما أن روثها مصدر للسماد والطاقة الضرورية للطهو والبناء، وعندما تموت فإن فئات اجتماعية تأكل جثتها وتستفيد من جلودها. كما أن البقرة تتغذى أساسا على مواد لا يحتاج إليها الإنسان، مثل القش والأعشاب، وعلى أى حال فإنه لا يتوقع أن يستطيع أكثر من عشرة فى المائة من الهنود أن يجعلوا من لحم البقر جزءا من نظامهم الغذائى سواء كانوا يؤمنون بذبحها أم لا. ولقد سأل أحد الصحفيين البريطانيين غاندى قائلا: كيف وأنت زعيم الهند ومن أشهر البشر الذين ظهروا فى التاريخ حتى الآن وتمتاز بالحكمة والحنكة السياسية تعبد بقرة؟ فنظر إليه غاندى قائلا أنا لا أعبد البقرة التى فى ذهنك أنا أتعبد لروح العطاء والمسالمة وبذل الذات والحكمة وهى لا تتوجه إلينا بمجرد كلمات ووصايا ولا تعاقب من لا يطيع وعندما تموت تقدم لحمها للفقراء أنا لا أعبد بقرة بعينها لكنى أتعلم من روحها وعطائها.
***
فى القرن الثانى عشر الميلادى أرجع الرباى والفيلسوف والطبيب موسى بن ميمون تحريم الخنزير إلى أن لحمه يضر بالصحة، وهنا فتح ابن ميمون المجال مبكرا للبحث عن تفسير طبيعى واقعى للتحريم، وإن قدم فى ذلك رؤية طبية خاطئة.
نجد فى كتاب هاريس أيضا تفسيرا للتحريم والذى يمثل العمليات الأساسية التى يتمكن من خلالها البشر والحيوانات من التعايش فى جماعات طبيعية وثقافية قابلة للحياة معا، يقول: «أعتقد أن التوراة والقرآن حرما الخنزير لأن تربيته تشكل خطرا على سلامة المنظومات البيئية الأساسية للشرق الأوسط فالخنازير فى بيئة الشرق الأوسط تهدد البيئة أكثر مما هى استثمار، ففى هذه البيئة الجافة قليلة المطر تشكل الحيوانات المجترة مثل الجمل مجالا أفضل للتقاسم الغذائى والتكيف البيئى، ويعتبر الخنزير كائن أحراش وضفاف أنهار مظللة فى المقام الأول ومعظم غذائه يأتى من الغذاء منخفض السيليلوز كالحبوب والثمار والدرنيات، ما يجعله المنافس المباشر للإنسان، فهو لا يستطيع أن يعيش على العشب وحده، كما أنه ليس مصدرا للحليب، ولا يمكنه الانتظام فى قطيع. والخنزير سيئ التكيف مع البيئات الحارة والجافة، فقدرة الخنزير على التعرق تساوى 3 فى المائة من قدرة الإنسان ما يجعله يتعرض للموت إذا ارتفعت حرارة الجو أكثر من 30 درجة مئوية ولتلافى ذلك يحاول ترطيب جلده بمرطب خارجى كالتمرغ فى الوحل الرطب. وتزيد قذارة الخنازير بسبب ارتفاع الحرارة لكنه يسلك سلوكا نظيفا إذا انخفضت الحرارة عن 28 درجة ولقد تذكرت ما حدث لخنازير مصر عندما اتهمها العلماء فى الخارج وتبعهم كالعادة علماء الداخل بأنها السبب الرئيسى فيما أطلقوا عليه إنفلونزا الخنازير وإذ بقرار فوقى بإعدام كل خنازير مصر، فقامت حملات على مستوى الجمهورية بالقبض على الخنازير وإعدامها بطريقة وحشية بدفنها فى الجير لإحراقها وكما هى العادة تواكب مع هذه الحملة حملة فقهية عن فوائد تحريم القرآن والعهد القديم من الكتاب المقدس لها ولم يمض وقت طويل حتى اعتذر العلماء فى الخارج معلنين أن الخنازير ليس لها علاقة بإنفلونزا الخنازير وهكذا أخرج تجار الخنازير ورعاتهم الخنازير التى أخفوها أثناء الحملة. وبدأ الحديث فى الإعلام على أن الخنازير ثروة قومية يجب الحفاظ عليها.
***
والحال أن الناس دولا ومجتمعات وأفرادا يفسرون الكتب المقدسة بما يتفق مع مصالحهم الآنية ويتصرفون على أساس مثل هذه التفاسير، معتقدين أنهم على صواب، ولديهم أسباب جيدة لتفسير رؤيتهم والتى باختياراتهم تحقق الرغبات العاجلة والمباشرة، والضغوط الناشئة عن الموقف تاريخيا، ثم مع مرور الزمن وتكرار هذه الأفعال التى حسبت صوابا فى زمنها وظروفها التاريخية نتحول إلى لا مبالين بأفكار الآخرين ومواقفهم ومعاناتهم كضحايا لهذه التفاسير سواء كانوا من البشر(الموقف من المرأة مثلا) والطفل وزواج القاصرات... إلخ أو من الآخر المختلف عرقا أو دينا أو مذهبا أو ضحايا من الحيوانات فلا نعود نرى إلا ذواتنا فقط فى المرآة. ربما تكون هذه الأفكار مفيدة فى السيطرة على التفاسير المتأثرة بأحداث وخلفيات تاريخية، فالمعرفة بالحقائق وتاريخها وإدراكها واقعيا تجعلنا نفكر وتساعدنا فى تحدى التنميط فى الأفكار حيث نعيد فهم التاريخ، وتحليله وندرك كيف صارت صراعات عرقية ومصالح دنيوية وقرارات صحية بحسب مفهومهم التاريخى تتحكم فى واقعنا اليوم متجاهلين أن كل هذه الأمور التى نقدسها ونحرمها قد تم علاجها فى العصر الحالى بوسائل حديثة ونكتشف أن ثقافات تجاوزها الزمن الحديث والحضارات الحالية أصبحت أساسا لمعتقدات راسخة تشكل للناس المعاصرين صراعات مديدة. وهكذا تحولت مصالحنا ومخاوفنا إلى فلسفة وعقائد متماسكة مقدسة نحارب بها الآخرين لأجلها ولنا فى داعش والصهيونية المسيحية وبعض الفرق اليهودية المتشددة ومن يؤمن بأسلوبهم من فقهاء ولاهوتيين يعيشون بيننا يدعون المحافظة على الإيمان وينظرون على تهميش المرأة وحرفية النص واحتكار الحقيقة المطلقة وتكفير كل من ينادى بغير ذلك نموذجا لا تخطئه العين السليمة والعقل الفاهم.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved