انتهاك حق مقدس

محمد سعد عبدالحفيظ
محمد سعد عبدالحفيظ

آخر تحديث: السبت 30 نوفمبر 2019 - 11:00 م بتوقيت القاهرة

تتعامل الدول المتحضرة مع حرية الصحافة باعتبارها حقا مقدسا لا يجوز المساس به، تضع لحمايته القوانين واللوائح، ويجبر نظامها العام مؤسسات الدولة المختلفة على التعامل مع الصحافة باعتبارها سلطة تمارس دورا رقابيا على باقى السلطات الثلاث لصالح المواطن صاحب السيادة العليا.
أما فى دول التخلف والاستبداد، فتكره أنظمتها الصحافة، تبغضها وتعمل دائما على إخضاعها، لأنها لا تعترف من الأساس بأى نوع من أنواع الرقابة على أعمالها، ومعظمها يظن أنه مبعوث العناية الإلهية لشعبه وبلده، وبالتالى فلا رقيب ولا سلطان عليه سوى الله، وعند الله تجتمع الخصوم.
ما سبق كان استهلالا لابد منه.. والسؤال: ما مناسبة الحديث عن الصحافة وحريتها أو حصارها الآن؟.. الحقيقة أن الحديث عن حرية الصحافة يناسب كل الأوقات، وكأننا نذكر أنفسنا بهذا الحق المقدس حتى لا ننسى أو نغفل فنفاجأ أنه دفن فى مقابر الصدقة.
لابد من التذكير أولا أن مصر احتلت هذا العام المرتبة 163 من أصل 180، بحسب التقرير السنوى الذى أصدرته منظمة «مراسلون بلا حدود».
وبما أن الحديث عن الصحافة وحريتها فرض وطقس يمارس فى أى وقت كما أسلفنا، فيجب ألا يفوتنا أن نذكر بما جرى مع موقع «مدى مصر» خلال الأيام الماضية دون دخول فى تفاصيله.
فقد اعتبرت كبريات وسائل الإعلام الدولية ومنها «واشنطن بوست» و«سى إن إن» و«لوموند» و«دويتشه فيله» أن ما جرى مع الموقع محاولة لإسكات «آخر وسيلة إعلام مستقلة فى مصر»، والوصف الأخير بغض النظر عن التفاصيل، أشعر شرفاء العاملين فى الإعلام المصرى بغصة وغيرة.
حتى وقت قريب يتجاوز الثلاث سنوات بقليل كان موقع «مدى مصر» الذى تأسس عام 2013، مجرد منصة تحاول تقديم مادة صحفية تنافس ما تقدمه منصات أخرى أكثر منه انتشارا وتأثيرا، فالمنافسة حتى عام 2015 كانت قائمة وتسمح بتقديم (خبطات وانفرادات وقصص) تقنع المتلقى، وبالتالى تظل قدرة المنافس الجديد على تحقيق طفرة محدودة، وربما تحتاج إلى سنوات.
فى النصف الثانى من عام 2016، تحديدا بعد واقعة اقتحام نقابة الصحفيين بدأت عملية إخضاع الصحافة المصرية تماما.
«مدى مصر» كان من ضمن المواقع التى حجبت فى مصر خلال 2017، لكنه ظل يعمل وفقا لقواعد المهنة وعمل على تقديم قصص لا تتميز كثيرا عما كانت الصحف الخاصة تقدمه قبل «العام الكئيب»، فتحول مع الوقت إلى «لمونة فى بلد قرفانة».
فى كل مرة تجمعنى لقاءات مع دبلوماسيين أو صحفيين أجانب ويفتح الحديث حول شأن مصرى يستدعى أحدهم ما نشر فى «مدى مصر»، لأكتشف أن معظم الحضور يتابعون الموقع عبر نسخته الإنجليزية فتتملكنى الغيرة الصحفية، كونى مديرا لتحرير صحيفة كبرى كانت المرجع الأهم لكل من يبحث عن خبر صحيح أو تحليل عميق فى الشأن المصرى.
سئلت قبل أيام على خلفية ما جرى مع «مدى مصر» بوصفى عضوا فى مجلس نقابة الصحفيين عن عدد المواقع المحجوبة وعن عدد الصحفيين المقبوض عليهم فى قضايا تتصل بعملهم، فلم أتمكن من الإجابة بأرقام محددة، حيث بات من الصعب حصر الانتهاكات التى تطال هذه المهنة، وأصبح من الموجع وأنت فى موقع مسئولية ألا تملك سوى إبراء الذمة ببيان أو تصريح أو وقفة مع زملاء تعرضوا لسوء.
أخيرا لقد منحت السلطة لموقع «مدى مصر» فرصة لم يكن يحلم بها عندما خنقت وغيبت باقى المنصات وأغلقت كل منافذ التعبير، فصار الموقع «آخر وسيلة إعلام مستقلة فى مصر» بحسب ما وصفته وسائل الإعلام الإجنبية، لأنه ببساطة يقدم خدمة صحفية من المفترض أن تقدمها باقى المنصات الإعلامية المنافسة.
ما جرى مع «مدى مصر» ومع غيره من المنصات الإعلامية، لا يضر الدولة واستقرارها فقط بل يضر السلطة التى تخيلت أنها تستطيع السيطرة على كل ما يصل إلى الرأى العام عبر السيطرة على وسائل الإعلام المحلية، فى حين أنها أتاحت لوسائل إعلام خارجية ومواقع التواصل الاجتماعى السيطرة على الفضاء الإعلامى المصرى الذى تختلط فيه الحقيقة بالأكاذيب دون وجود وسيلة إعلام مصرية قادرة على التصدى الحقيقى والفعال لمثل هذه الممارسات لندفع جميعا سلطة وشعبا ثمن إسكات الإعلام.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved