نهاية الخلافة العثمانية

أحمد عبدربه
أحمد عبدربه

آخر تحديث: السبت 30 نوفمبر 2019 - 10:50 م بتوقيت القاهرة

مع نهاية القرن التاسع عشر كان الوضع فى الخلافة العثمانية يزداد سوءًا، فالخليفة الذى أطاح بالدستور والبرلمان، لم يعد يحكم إلا بواسطة جهاز مخابراته، ولم يعد يرى أى طلب مشروع للمعارضة أو التنظيم السياسى، سوى باعتباره مؤامرة يهودية/ صهيونية/ استعمارية.
فى مذكرات عبدالحميد الثانى دلائل كبيرة على أنه قد انفصل تماما عن الواقع ولم يعد يرى فى أى مطالب للتغيير السياسى إلا باعتبارها مؤامرة، ووصل الأمر إلى أنه حتى الجامعة الإسلامية التى أنشأها لم يعد ينظر لمن يخالفه الرأى من المتحمسين لها إلا باعتباره عميلا للإنجليز!
بالإضافة إلى ذلك، تواصلت الانتفاضات الراغبة فى الانفصال عن الدولة العثمانية، فالأفكار القومية انتشرت فى أوروبا وآسيا فى مقابل سلطان خائف ومذعور من أى تغيير، ورافضا لاعتماد أى كيان سياسى ليمثل مطالب الأقليات والقوميات غير التركية كما نصحه الكثيرون ومن ضمنهم متحمسون للجامعة الإسلامية كما قلنا مسبقا!
***
كان عاملا آخر يساهم فى مزيد من التدهور، فالخليفة الذى أصبح معزولا عن شعبه وعن طلابه وعن جيشه وعن باقى شعوب إمبراطوريته والذى لم يعد يحتمى إلا فى جهاز مخابراتى يقمع المعارضين، أخذ فى الاستدانة من الدول الأوروبية، فتزايدت قوة الضغط الأوروبية حتى أن الدول الأوروبية الدائنة للخلافة أصبح لها لجنة رسمية فى تركيا تقوم بالإشراف على الإنفاق العام تحت دعوى عدم تبديد الأموال التى تم استدانتها.
فى هذه الأثناء كانت الحركات القومية تنتشر فى ربوع الخلافة، الأرمن والعرب والأتراك تحديدا كانوا يشكلون جذور حركات قومية، ترفض اعتبار الدين الأساس الوحيد لحقوق المواطنة وتبحث عن تشكيل حكومات مركزية دستورية تحسن من تمثيل المواطنين.
أمام هذه الضغوط المتزايدة وجدت الحركة الصهيونية فرصة كبيرة للضغط على عبدالحميد للتنازل عن فلسطين، وقام زعيم الحركة تيودور هيرتزل بعد وساطات عدة بمقابلة السلطان عبدالحميد ثلاث مرات فى عام ١٩٠١ حاملا إليه عرض مقايضة فلسطين بالتوسط عند الحكومات الغربية لتخفيف الديون على الدولة العثمانية وحينما رفض عبدالحميد، قدم هيرتزل عرضا آخر فى الاجتماع الثانى بالضغط على الدول الأوروبية لتخفيف الضغط على الدولة العثمانية بخصوص مطالب الأرمن فى وطن مستقل، لكن عاد عبدالحميد ورفض، فانتهى الأمر باجتماع ثالث لم يحقق المراد أصلا، فعاد هيرتزل دون تحقيق أى مكسب، لكن ظلت الديون كما هى، واستمر التدهور العثمانى.
كانت الحركات التركية القومية يتزايد نفوذها مع مرور الوقت، فحركة الاتحاد والترقى والتى كانت التطور الأخير لحركات قومية أخرى مثل حركة العثمانيين الجدد وحركة الاتحاد العثمانى وغيرها، تغلغلت فى الجيش وبين الطلاب وبين نخبة المثقفين والفنانين والشعراء الأتراك الذين عاداهم جميعا عبدالحميد واعتقد أن تقاريره المخابراتية المشوهة لهم كفيلة بتأمين ظهره، تمكنت من الضغط على السلطان حتى اضطر فى عام ١٩٠٨ إلى إعادة العمل بدستور وبرلمان ١٨٧٦ والذين كان قد أوقف العمل بهما فى عام ١٨٧٧. ثلاثون عاما أهدرها عبدالحميد كان من الممكن أن يستغلها فى عملية تحديث سياسى كما نصحه الكثيرون وفى مقدمتهم جمال الدين الأفغانى.
***
استمرت الاضطرابات والمصادمات بين الخليفة وبين جمعية الاتحاد والترقى، وانتهى الأمر بقيام الجيش التركى بالانقلاب على عبدالحميد الثانى، وهو الانقلاب الذى أيده البرلمان وكذلك دعمه المفتى العام الذى جاءت فتواه لتتهم عبدالحميد بالتبذير والإسراف وظلم الرعية والحنث بالقسم، بل وزادت الفتوى التى وقع عليها المفتى العام شيخ الإسلام محمد ضياء الدين باتهام الخليفة بأنه قصد إحداث فتنة بين المسلمين وبالتالى وجب خلعه (انظر نص الفتوى فى كتاب صحوة الرجل المريض، لموفق بنى المرجة المنشور عن دار الريان عام ١٩٨٤ ص ٤١٠).
اضطر عبدالحميد أن يتنازل عن العرش لأخيه محمد رشاد، وتم نفيه إلى صالونيك (فى اليونان حاليا)، لكنه عاد لاحقا إلى إسطنبول التى توفى فيها عام ١٩١٨ معانيا من مرض السل.
لم يكن السلطان رشاد سوى واجهة للجيش التركى الذى كان يتحكم بالفعل فى مقاليد الأمور ولم يكن يسعى سوى نحو التتريك (جعل اللغة التركية هى اللغة الوحيدة الرسمية للدولة العثمانية) فزادت الاضطرابات والانقسامات بين العرب والترك، حتى قرر العثمانيون دخول الحرب العالمية الأولى إلى جانب ألمانيا والمجر وهو الرهان الخاطئ الذى انتهى بهزيمة قاسية للعثمانيين عجلت بإنهاء الدولة العثمانية وإنشاء الدولة التركية المركزية بواسطة مصطفى كمال أتاتورك.
فى هذه الأثناء قام البريطانيون والفرنسيون باتفاقية سايكس بيكو الشهيرة لتقسيم مناطق الخلافة فيما بينهم، كما عقد الشريف حسين صفقة فاشلة مع البريطانيين قام فيها بالثورة على العثمانيين فى الحجاز مقابل وعدا لم ينفذ من البريطانيين بتمكينه من خلافة عربية، كما قامت بريطانيا بتقديم وعدها الشهير لليهود بإنشاء دولة يهودية فى فلسطين، وهكذا تداعت الأحداث سريعا حتى انتهت الخلافة العثمانية والإسلامية عموما حتى وقتنا هذا!
***
فى مذكرات الخليفة عبدالحميد والتى كتبها فى آخر أيامه وترجمها للعربية الدكتور محمد حرب عن دار القلم فى دمشق، وجه اللوم للجميع، فقد اتهم الصهيونية بالوقوف وراء عزله، واعتبر عزله مؤامرة غربية على الإسلام، وجه اللوم أيضا للجيش ولكل من عارضه، لكن الحقيقة التى لم يُرِد عبدالحميد ولا الكتابات التى لاتزال تدافع عنه حتى وقتنا هذا الاعتراف بها، أن الإصرار على وأد الحياة السياسية والسير عكس ركب التحديث والتحضر هو أهم الأسباب التى أدت إلى انتهاء الخلافة العثمانية على النحو الذى انتهت إليه.
ولذلك فالكتابات التى لم ترى فى مصطفى كمال أتاتورك سوى يهوديا متآمرا على الإسلام، تغفل تطورات تاريخية هامة فى تاريخ الدولة العثمانية استمرت لأكثر من قرن من الزمان، عجزت فيها عن اللحاق بالتحديثات السياسية والصناعية الأوروبية فكانت النتيجة طبيعية!
للمرة الأولى منذ ١٤ قرنا أصبح المسلمون بلا خلافة، صحيح أن هذه الخلافة كانت فى الكثير من الأوقات مجرد خلافة شكلية، وصحيح أنه وفى فترات كثيرة من التاريخ تواجدت أكثر من خلافة وأكثر من خليفة كل منهم يدعى الشرعية، لكن الأكيد أنها كانت المرة الأولى التى تنتهى فيها الفكرة فعلا وتتحول لاحقا إلى حلم مشوش غير محدد المعالم يسعى إليه بعض المسلمين.
لكن ما الذى يمكن استخلاصه من تاريخ الخلافة الإسلامية بكل منحدراته منذ وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام وحتى نهاية الخلافة فى ١٩٢٣؟ هذا هو موضوع المقالات القادمة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved