رهان تركى على كوابح التصعيد الغربى

بشير عبد الفتاح
بشير عبد الفتاح

آخر تحديث: الإثنين 30 نوفمبر 2020 - 9:35 م بتوقيت القاهرة

فى الوقت الذى يؤكد وزير الخارجية الأمريكى مايك بومبيو، إبان زيارته الوداعية لأوروبا أخيرا، توافق ضفتى الأطلسى بشأن معاقبة تركيا لحملها على تغيير سلوكها والتخلى عن سياساتها العدوانية فى مواضع شتى، فيما يجمع البرلمان الأوروبى قبل قليل على مطالبة القمة الأوروبية التى ستلتئم يومى العاشر والحادى عشر من الشهر الحالى، بفرض عقوبات موجعة عليها بجريرة محاولاتها فرض واقع غير قانونى بالجزيرة القبرصية ومياهها الإقليمية، ما برحت أنقرة المسكونة بأوهام استعصاء الإجماع الأوروبى بهذا الخصوص، تراهن على حزمة معطيات تظنها كفيلة بكبح جماح أى تصعيد غربى محتمل ضدها.
فمن منظور اقتصادى، تشكل إمكانية تضرر اقتصادات عالمية عديدة، جراء هكذا تصعيد عائقا لافتا بهذا المضمار. فمن شأن أى تأزم فى اقتصاد تركيا أن يلقى بظلاله على اقتصادات الاتحاد الأوروبى الذى يعد شريكها التجارى الأول، فيما تتعاظم المخاوف الدولية من حدوث أزمة اقتصادية عالمية، لاحت إرهاصاتها مع إغلاق البورصات الأوروبية الرئيسية على تراجع خلال الأيام التى أعقبت مضاعفة واشنطن رسومها الجمركية على منتجات الصلب والألومنيوم التركية، علاوة على ارتباك اليورو وعدد من العملات الناشئة أمام الدولار الأمريكى، على وقع تدهور الليرة التركية، وهبوط بورصة وول ستريت مع تضرر أسهم البنوك التركية. كذلك، من غير المستبعد أن تضرر الشركات الغربية الخاصة التى لديها استثمارات هائلة ومصالح متشابكة داخل تركيا، خصوصا فى ظل الافتقاد لآلية قانونية تجارية على غرار «إينستيكس» التى أعلن الاتحاد الأوروبى عن تأسيها فى سبتمبر 2018 بغرض السماح للشركات الأوروبية بمواصلة التجارة مع إيران وفقا للقوانين الأوروبية، بمنأى عن العقوبات الأمريكية المفروضة عليها.
ومن زاوية أمنية، وعلى رغم تحفظاتهم، التى لا تحصى، على سياساتها، بشقيها الداخلى والخارجى، لا يبدو شركاء تركيا التجاريين والاستراتيجيين فى الاتحاد الأوروبى والحلف الأطلسى مستعدين لتقبل تحول تركيا إلى دولة فاشلة، ليس محبة فى الأتراك بقدر ما هو تخوف من أن يفضى تحقق هذا السيناريو الكارثى إلى فراغ جيوسياسى مخيف فى منطقة حيوية ومضطربة فى آن، قد تتبارى قوى منافسة أو دول مارقة أو تنظيمات متطرفة إلى ملأه بما يهدد مصالح أولئك الشركاء فى المحاور المحيطة بتركيا، خصوصا إذا ما أطيح بجدار العزل الحضارى والجيوسياسى الفاصل بين المنظومة الغربية والمنغصات القادمة من الشرق.فبرغم مناكفاتها، لطالما حالت تركيا دون تدفق ملايين اللاجئين والمهاجرين غير النظاميين إلى أوروبا ليقضوا مضاجعها، ومنعت تدفق المتطرفين والإرهابيين الدواعش القادمين من سوريا والعراق وإيران والقوقاز إلى القارة العجوز، لتهديد أمنها واستقرارها واستدراج «الناتو» إلى أتون حروب غير متناظرة تستنزفه وتنهك قواه وتشغله عن أهدافه الأساسية. وفى هذا السياق، برأسها أطلت الهواجس الألمانية من أن يؤدى الإمعان فى معاقبة تركيا إلى تنصلها من اتفاق اللاجئين للعام 2016، وإغراق أوروبا باللاجئين والمهاجرين والإرهابيين عبر منصتين: تمثل الحدود التركية اليونانية أولاهما، بينما تجسد شواطئ ليبيا الغربية، التى يتموضع بها الأتراك، ثانيتهما.
أما جيواستراتيجيا، فلم تهدأ وتيرة القلق الأمريكى من التوجهات الأوراسية لتركيا. حيث لا يفتأ إردوغان يحذر واشنطن، من تصدع شراكتهما الاستراتيجية، جراء اضطرار أنقرة لتفعيل خياراتها الجيوسياسية المتنوعة، على حد قوله، عبر تعزيز مساعيها الرامية لاستكمال عمليات التكامل الأوراسى بما يعظم احتمالات انضمامها مستقبلا إلى منظمة «شنغهاى»، التى تضم روسيا والصين وإيران خصوم الناتو الأساسيين، ما لم تلتزم واشنطن وحلفاؤها الأطلسيون باحترام سيادة تركيا، وتبدى تفهمها للمخاطر والتهديدات التى تحيط بها، وتتراجع عن أية إجراءات تصعيدية تستهدفها، وتتخلى عن اعتبار أنقرة تابعا لها. من جانبه، لا يبدو الغرب مستعدا لتقبل انسلاخ تركيا عن منظومته والارتماء فى أحضان أنداده، حيث جدد السفير الأمريكى لدى أثينا، جيفرى بيات، فى حديث لصحيفة «ذا ناشيونال هيرالد» يوم الخامس من نوفمبر الماضى، التأكيد على رسوخ مبدأ الناتو فى التعاطى مع تركيا والمتمثل فى ضرورة استبقائها راسية فى المعسكر الغربى، مهما بلغت الخلافات معها.
انطلاقا من تلك الاعتبارات وغيرها، لم تتورع أصوات عديدة ونافذة داخل الإدارة الأمريكية عن إبداء تحفظها على إجراءات ترامب العقابية التصعيدية حيال أنقرة، التى لا تزال وعلى رغم الغيوم التى ألقت بظلالها على علاقاتها بدول الناتو، عضوا محوريا فى الحلف وشريكا استراتيجيا مهما لواشنطن، التى ما انفكت تحتاج لاستخدام القواعد العسكرية التركية، التى تحوى إحداها فى إنجرليك سبعين رأسا نوويا تكتيكيا من نوع B61ــ12، بهدف محاربة الإرهاب وتحقيق مآرب استراتيجية أخرى فى المنطقة. وفى يوليو الماضى، اعترض وزير الدفاع الأمريكى الأسبق، جيمس ماتيس، على مقترح للكونجرس بإقصاء تركيا من البرنامج الإيكولوجى لتصنيع مقاتلات Fــ35، التى انضمت إليه عام 2002، واستثمرت فيه 1.2 مليار دولار لشراء 100 مقاتلة منها، محذرا من أن يفضى ذلك السلوك التصعيدى إلى الإضرار بسلسلة الإمداد الدولى لتصنيع تلك المقاتلات بما يعطل خط إنتاجها، حيث يستغرق توفير إجراءات تعويضية عاجلة لإمدادات المكونات التى كانت تصنعها تركيا، ما بين 18 إلى 24 شهرا، الأمر الذى ما أجبر إدارة ترامب على إرجاء تنفيذ ذلك المقترح حولين كاملين.
وبينما لا يستبعد دعاة إبعاد تركيا من الحلف الأطلسى إمكانية إيجاد بديل جيوسياسى أفضل منها فى وقت غير بعيد، تتنوع معوقات هكذا إجراء. فمن جانب، لا يزال الناتو يحتاج لتركيا كجبهة أمامية لاحتواء الطموحات الروسية البوتينية المتعاظمة، فضلا عن تقديم الدعم اللوجيستى والإسناد الجيواستراتيجى للمهام الممتدة التى يضطلع بها الحلف فى الشرقين الأوسط والأدنى، علاوة على استثمار دور أنقرة اللوجيستى فى أمن الطاقة الأوروبى، وإسهاماتها القيمة فى محاربة الإرهاب واللجوء والهجرة غير النظامية. وما دامت عضوية تركيا فى الناتو كما علاقاتها الاستراتيجية الاضطرارية به قائمة، ولو بمستوى لا يرضى عنه طرفاها، دون أن يتجاسر أى منهما على المطالبة بمراجعتها أو فضها. وهو أمر واقع استراتيجى راسخ، ليس من المتوقع أن تسفر سياسات أنقرة الاستفزازية، بما فيها إتمامها لصفقة منظومات إس 400 الروسية عن تغييره، وإن زادت تداعياتها السلبية من أزمة الثقة، أو فاقمت فجوة الخلافات المزمنة والمتنامية بين شركاء تحالف استراتيجى قلق لكنه لا يزال ملحا.
على الجانب الآخر، وباستثناء الحالة الوحيدة لمراجعة عضوية الناتو من قبل فرنسا، التى انسحبت مرحليا من هيكله العسكرى عام 1966 لمدة 30 عاما ثم ما لبثت أن عادت إليه عام 1995، لم يسبق للحلف أن أقدم على خطوة من هذا القبيل، حيث يتوسع شرقا حتى قفز عدد الدول الأعضاء من 12 عند بداية تأسيسه إلى 30 دولة حاليا، فيما تشارك 21 دولة فى برنامجه للشراكة من أجل السلام، و15 أخرى فى برامج الحوار المؤسسى.ووفقا للمادة الثالثة عشر من معاهدة واشنطن المؤسسة للحلف عام 1949، يعود الانسحاب منه إلى إرادة الدولة العضو، بعد مضى عشرين عاما على توقيع المعاهدة، ومرورعام على تقديمها طلبا رسميا للولايات المتحدة، التى تتولى بدورها إخطار بقية الدول الأعضاء. ولما كان اتخاذ القرارات داخل اجتماعات مجلس الحلف برئاسة أمينه العام، يتم على أساس قاعدة الإجماع، فإن استبعاد دولة كتركيا منه سيتطلب موافقة 29 دولة، وهو ما لا يبدو هينا فى ظل عدم ترحيب بعض الأعضاء بسن هذه السنة السيئة، فيما لا تأمن دولة كاليونان جوار تركيا، التى تتنوع الملفات الخلافية معها، بينما ستتحرك بحرية خارج القيود القانونية والاستراتيجية التى كان الناتو يكبح جماحها من خلالها، لاسيما بعد قراره فى أغسطس 1974، بأن المادة الخامسة من المعاهدة، التى تعتبر أى هجوم على حليف ما هجوما على الجميع، تطبق فقط حالة تعرض دولة عضو لعدوان من قبل طرف خارجى، وليس من دولة أخرى عضو بالحلف. وهو ما يفسر رفض الحلف مطلب اليونان بتحذير تركيا من أن يفضى عدوانها على اليونان إلى تفعيل المادة الخامسة من المعاهدة ضد أنقرة.
ولما كانت أمريكا أشبه بسفينة عملاقة أو حاملة طائرات ضخمة يتطلب تغيير اتجاهها ردحا من الزمن، ربما يقدم الرئيس التركى خلاله على القيام باستدارة استراتيجية تتضمن تراجعه خطوات للوراء، وتقديم تنازلات لاسترضاء الأوروبيين وإبداء حسن النية حيال الإدارة الأمريكية الديمقراطية الجديدة، والإيحاء بعدم ممانعة أنقرة فى أن تعود الشراكة الاستراتيجية المفيدة مع الغرب، وإن بدت مجحفة وغير متكافئة، إلى سيرتها الأولى، التى وضعت واشنطن وبروكسيل أسسها وحددتا ملامحها وشروطها قبل عقود سبعة خلت.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved