السخرية لا تقتل

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: الأحد 30 ديسمبر 2012 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

توليفة ممتازة من الواقع والخيال.. لها مفعول الشاى الذى يشربه المصريون ليعدل المزاج، مع زحمة الأحداث والشوارع. صور باسم يوسف الإعلانية بتعبيرات وجهه المختلفة وضعت على كوبرى 6 أكتوبر، شريان القاهرة الأساسى، كما لو أنه ينظر الينا ويتهكم على فوضانا.. فالمشهد العام من أعلى غريب وجدير بالسخرية: ناس كثر كالنقاط السوداء، تتحرك بسرعة ميكانيكية، فتعطى انطباعا أنهم لا يتحركون أصلا، ولا نعرف هل هم نياما أم فى حالة نشاط دائم. وينفتح الشارع أمامك- أعلى منطقة رمسيس ــ مثل «طاقة القدر» أو فنجان قهوة سنقرأ فيه المستقبل بمحاولة ترجمة نقوشه الدقيقة وما فيه من رموز. جرب أن تتوقف قليلا عند هذا المكان، باتجاه التحرير، فتجد باسم يوسف يطالعك ساخرا لتضحك معه على ما ترى حولك. لماذا إذا يضيق صدر البعض من السخرية؟ أليس تقبل السخرية من المؤشرات على مدى استعدادنا للممارسة الحقة للديمقراطية؟ غالبا عندما يمتعض الناس من السخرية ويحاولون أن يضعوا لها شروطا وأحكاما ونواهى، فهذا دليل على الضعف وعدم الثقة بالذات، ولكن أيضا على أنهم غير مؤهلين للديمقراطية، بل ولا يرغبون فى التغيير، لأن الغرض من الضحك على ما يمر بنا من أحداث هو تغييره.. نضحك من أنفسنا وما نفعل كما فى المرآة، فنصحح من أخطائنا، إذا أمكن.

 

•••

انقسام المجتمع حول برنامج باسم يوسف الأسبوعى بالتحمس الشديد أو رفضه التام يعكس انقساما واقعيا بين مجموعة تسعى للتغيير وتناضل من أجله، وأخرى تصر أنها دوما على صواب، مهما أظهر «البرنامج» تناقضاتها وطبيعتها الشمولية. وبالتالى صار باسم يوسف من ناحية هدفا لهجمات المتشددين أو المحافظين الذين لا يستطيعون منافسته أو مجاراته فى السخرية، ومن ناحية أخرى جاء ضمن أكثر عشر كلمات تداولا على تويتر.. كما أعلن الكثيرون تضامنهم معه، سواء أشخاص أو هيئات، مثل جمعية «أطباء التحرير» التى أكدت أنها ستقف إلى جانبه فى حال اتخاذ أى إجراء نقابى ضده، فهو فى الأساس طبيب متخصص فى جراحات القلب والصدر.

 

و الجراح عادة يكون قاطعا، ينفذ إلى العمق.. يركز فى «البرنامج» على أخطاء وهفوات وكبوات من يعملون بالشأن العام، ويعلق على الأحداث كمن يجلس ليتابع نشرات الأخبار مع مجموعة من الظرفاء والفطنين الذين يبرعون فى إلقاء النكات، فتكون النتيجة برنامجا على طريقة التنكيت والتبكيت (مجلة أسبوعية كان يصدرها عبدالله النديم فى فترة الثورة العرابية). ومن الطبيعى أن تكون السخرية حاليا من الإسلاميين لأنهم يتصدرون المشهد، ففى ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضى كان التهكم السياسى يستهدف رجال الحكم الذين صادقوا الغرب، ثم تحولت الأنظار بعد ذلك إلى الأنظمة العسكرية العربية وما صاحبها من خيبة وتطبيقات اقتصادية فاشلة، وهكذا تتبدل الأدوار والعصور.

 

•••

 

تتلاشى الحدود بين الواقع السياسى والكوميديا، ويظهر معلقون ساخرون على الأحداث كباسم يوسف ليصبحوا من أكثر الناس تأثيرا على غرار الراحل كوليش فى فرنسا أو جون ستيوارت فى الولايات المتحدة الأمريكية، إذ جاء ترتيب هذا الأخير ضمن أهم عشرة صحفيين فى أمريكا عام 2007، واحتل المركز الرابع بينهم، الأمر الذى جعل البعض يؤكد تراجع البرامج التقليدية أمام مثيلاتها الساخرة ويقارن بين ما يقدمه هؤلاء وما تقدمه الصحافة العادية أو السائدة. فسواء باسم يوسف أو مثله الأعلى جون ستيوارت ( الدارس لعلم النفس) لا يلتزمان الحيادية، بل يعلنان مواقفهما ويخلعان أحيانا قبعة «الفكاهي» ليتقمصا دور الصحفى الملتزم بقضايا معينة. هما لا يختلقا أحداثا ولا روايات، بل يعيدا تفكيك المشهد ليفضحا تلاعب البعض، ويؤديان هنا دورا يشبه الصحافة العادية وهو تنبيه المشاهد وحثه على التفكير بشكل نقدى فى أمور الشأن العام. لكن الجمهور الذى يضحك معهما لا يشكل الأغلبية، بل مجموعة تتابع الحياة السياسية بالفعل ولها رأى فيما يحدث، وربما ناشطة على الشبكات الاجتماعية، وهو يسعد بالنكات والاسكتشات الساخرة لأنها تؤكد رأيه وتساعده على التخلص من إحباطاته اليومية. كلاهما يمزج بين القالب التقليدى للبرنامج الإخبارى وبرامج المنوعات التى تذاع فى ساعات الليل المتأخرة، وتركيبة برامجهما تأتى على ثلاثة أجزاء: منولوج ضاحك مدعوم بالفيديو والتسجيلات، اسكتشات يقوم بها المقدم ومساعدوه، ضيف الحلقة. مساحة الخيال فى مثل هذه البرامج تكون أكبر، لذا فالناس يفضلون أحيانا كيفية تغطيتهما للأحداث بشكل مبتكر.. فى حين يمتعض آخرون لأنهم لا يشاركونهما الخيال ولا يستطيعون اللحاق بهما، هناك دائما ما يحد من خيالهم ويمنعهم من التحليق.

 

وهنا أتذكر سؤالا مباغتا طرحته على منذ سنوات كاتبة من المدافعات عن حقوق المرأة: «هل تحلمين أنك تطيرين من وقت لآخر؟»، مؤكدة أن حلم الطيران ظل يلازمها طوال سنوات عمرها، فهى لم تكتفِ قط بالسائد والتقليدى، بل تسعى للحرية والابتكار. وذلك هو الفرق.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved