هل تختلف القيم الإنسانية باختلاف الزمان والمكان؟!

إكرام لمعي
إكرام لمعي

آخر تحديث: الجمعة 30 ديسمبر 2022 - 7:50 م بتوقيت القاهرة

ونحن نودع عامًا ونستقبل آخر، نواجه دائمًا بسؤال: هل يجوز للبشر أن يختلفوا حول تعريفهم للقيم الإنسانية الأساسية؟!

لا شك أن الإنسان عبر التاريخ والجغرافيا قام بتطوير أوضاعه الثقافية والحضارية فى كل مجتمع إنسانى، وذلك من خلال بناء منظومة متناسقة ومتماسكة من القيم التى بنى على أساسها الوجدان والروح واللغة التى تسود فى بيئة وحضارة كل تجمع إنسانى على حدة، وهكذا صاغ الناس قيمهم بالاستناد إلى ثقافاتهم وحضاراتهم وقدراتهم على التعبير عن ذواتهم عبر تاريخ طويل، فخرجوا من خلال مناقشاتهم وصراعهم الإنسانى إلى ما استحسنوه من قيم يؤثرونها على قيم أخرى، لذلك لا بد لنا هنا من أن نقف مع ذواتنا ونتأمل بعمق وهدوء فى طبيعة هذه القيم التى يستلهمها الناس فى مجتمعاتهم من أجل إثبات وتثبيت وجودهم، وتدبير حالهم، بل وتنشيط ذاكرتهم التاريخية، وذلك لتفعيل مشاركتهم فى بناء الحضارة الإنسانية الكونية المتضامنة والمتعارفة والمتكافئة المتكاملة.
• • •
من هنا تبرز أخطر الأسئلة الوجودية التى تطرحها عُقولنا عن التعدد والاختلاف فى تصورنا للقيم الإنسانية التى تهدينا على الطريق للمستقبل، والتى هى نتاج المبادئ الثلاثة العظمى التى يستند إليها الوجود الإنسانى وهى (صيانة الحياة، ورعاية كرامة الإنسان، والاستنارة بالعقل) أى (الحياة ــ الكرامة ــ العقل)، لكن أيضًا يُمكننا هنا أن نَذكر قيمًا أخرى أساسية ظَهرت وفَرضت ذاتَها نتيجة استخدام شريعة حقوق الإنسان العالمية: (الحرية ــ المساواة ــ الأخوة ــ العدالة)، وذلك إضافة إلى القيم المتوارثة التى تتمسك بها المجتمعات البشرية منذ أقدم العصور، مثل العزة والكرامة والشرف والأمانة والصدق والصبر... إلخ، مع القيم الدينية التى رافقت صحوة الوعى الروحى كغفران البشر لبعضهم البعض، والمسامحة والتناصح والتضامن والتسالم والكرم وإخلاء الذات لأجل الآخر... إلخ، هذا بجوار ما يعتبره الناس من قيم أخرى مثل الصبر والكرم والرجاء، وهكذا يُطرح أمامنا معانٍّ كثيرة إنسانية سامية، اتفقت عليها تقريبًا الجماعات الإنسانية فى جميع المجتمعات والأحوال على مدى التاريخ لكن بالطبع اختلف البشر حولها عند التطبيق، فعلى سبيل المثال كانت فى القرون الوسطى فى مقام الصدارة عبارة منتشرة تساوى بين ثلاثة من القيم هى: الحق والخير والجمال، وسبب ذلك أن فلاسفة القرون الوسطى كانوا يعتبرون أن الحق واحد والواحد حق وصلاح. وهذا بسبب سيطرة الأديان واللاهوت والفقه، وبالطبع كان هذا يصون المنطق الفكرى الإنسانى إلا أنه فى نفس الوقت يختزل الأمور اختزالًا خطيرًا، ويُصادر تنوع التجليات التى تستثيرها هذه القيم عبر التاريخ، فمثلًا كان فلاسفة الإغريق القدماء يُصرون على أن هناك وحدة عضوية ناشطة بين قيم الحق والخير والجمال، فينسبون إلى الإله الصلاح المطلق والصدارة العظمى والقدرة التأصيلية المبدئية، إلا أن اختبارات الشعوب الثقافية والحضارية أدت إلى تناقض الصورة فى حد ذاتها، فهل يكون الصلاح هو قمة القيم؟ أم الحق؟! أم الجمال؟! والجمال ما هو تعريفه؟ هل يكون فى الشكل أم المضمون؟ فى الحسيات أم فى الماديات والجسديات؟ أم فى الذهنيات والنفسيات والمعنويات والروحيات؟!

وهنا تقودنا هذه الاستفسارات إلى الإشكال الحضارى الثانى الذى ينشأ من التعارض بين القيم الإنسانية فى ذات المجتمع الواحد والثقافة الواحدة وذلك لأن كل فرد من أفراد المجتمع الواحد والثقافة الواحدة يتنازعه ضربان من الأمانة: الأمانة على قيم المجتمع السائدة، والأمانة على قيمة الذاتية التى اصطفاها من قيم مجتمعه. فالمعلم يستهدى بقيمتين: المعرفة والعدل بين تلاميذه. والممرضة تستنير بقيمة الصحة الجسدية والنفسية، وقيمة الانتعاش الكيانى فى حياة المريض، أما مدير المؤسسة الإنتاجية، فيسترشد بقيم الفعالية والاتقان والتنافس، فى حين أن المسئول السياسى يعتصم بقيم الحنكة والدهاء والتدبير التى تصون مصلحة الدولة العليا. وأيضًا ينشأ تناقض آخر بين قيمة الحرية الفردية وقيمة الواجب الوطنى والانضباط السلوكى، بوجه عام فى المجتمع، وغالبًا تتفاقم خطورة التعارض بين القيم فى حقل أخلاقيات الحياة، إذ يرتبك الناس عند الاختيار بين حلول طبية لا تستطيع أن تشفى كل أسقام المريض الجسدية والعقلية والنفسية والروحية.

من الواضح أن قيم الاقتناع الذاتى غير قيم المسئولية العامة، وأن تنوع المقامات الوجودية يستثنى تعارضًا بين القيم المطلوبة.

أما الإشكال الحضارى الثالث، فيأتى عن التعارض الأخطر بين القيم التى تستند إليها الشعوب فى تقرير مصيرها وهداية وجودها، وتدبير حياتها.
صحيح أن جميع الأمم تحترم حقوق الإنسان غير أن بعض المجتمعات تخضع الحرية الفردية لقيم التراث المنعقدة على صون العزة القومية، والتضامن الاجتماعى والحفاظ على روح التراث الجماعى، صحيح أن جميع الأمم تؤيد قيم المساواة بيد أن بعض الثقافات ما انفكت تسوغ الاختلاف الطبيعى الشرعى بين الرجل والمرأة، بين السلالة الحاكمة، والشعب المحكوم، بين الإنسان الأبيض والأسود، بين المؤمن وغير المؤمن بين الإكليروس والعلمانى، بين الخير الطبيعى السليم والجسد المعوق... إلخ. وعلاوة على الاختلافات الخطيرة هناك أيضًا تصورات القيم فى الحضارات الإنسانية المتنوعة، فالناس فى المجتمع الواحد لا يجتمعون على تعريف واحد يتناولون به حقيقة الإنسان من صلب الاختلاف، والتباين فى تصور القيم الإنسانية، فهل يكون الإنسان كائنًا بيولوجيًا يقتصر وعيه على تفاعل الخلايا العصبية فى دماغه؟ أم يكون كائنًا روحيًا يتجاوز مجرد النشاط الذهنى ليتصور الحياة تصورًا يجعله ينتسب إلى عالم غيبى خالد يدخل فيه من بعد أن يكدح كدحه ويحج حجه فى هذه الأرض الفانية.
• • •
خلاصة القول إن المجتمعات الإنسانية لا يمكنها أن تكتفى بمجرد الإجماع اللفظى على ضم بعض القيم الإنسانية المنسلخة عن أصولها الثقافية وحقولها الوجدانية وبيئاتها الأصلية والتاريخية، لكن يجب علينا أن ندرك اليوم أن جميع الثقافات لا ترضى بما سَّنه الشاطبى فى كتابه «الموافقات» حين افترض أن ملل الأرض اتفقت على ضروريات الشريعة الخمس: الدين، والنفس، والنسل، والمال، والعقل. فالجميع يعلم أن الحضارة الغربية لا تضع الدين فى مقام الضروريات الوجودية المطلقة، وبعضهم يعتقد أنها كفت عن أن تضع النسل فى مقام الصدارة، إذ إن حياة الإنسان الغربى لا تتحقق بنسله بل بفعل كيانه الذاتى وإنجازه الشخصى.

أقول هذا لأبين أن شرط الشروط فى تسالم الحضارات هو الإقبال الرصين على البحث فى مضامين القيم التى تجمع عليها من غير تجرؤ له فتنظر فى التباينات الإدراكية الخطيرة، التى تجعل الوفاق عسيرا فى معترك التضامن الإنسانى الكونى. يطيب لى أن أستحضر فى هذا المقام ما استخدمه الفيلسوف اللبنانى ربه حبشى (١٩١٥ – ٢٠٠٣) من جليل المقارنة بين القيم التوحيدية الثلاث، إذ نسبت إلى اليهودية قيمة الاستضافة، وإلى المسيحية قيمة المجانية، وإلى الإسلام قيمة التسامح ودعا الجميع إلى بناء منظومة أخلاقية متوسطة تحترم تراث البحر الأبيض المتوسط فى مؤتلف روحى يعزز التكاملية الروحية بين هذه القيم.

أعتقد أن هذه الاجتهادات تساعدنا فى تصفية الفكر الحضارى الإنسانى غير أنها لا تعفينا من مسئولية النظر فى رسم الحدود الفاصلة بين قيمة الحرية على سبيل المثال والتى تغتنى بتأويلات الحضارات الإنسانية واختبارات شعوبها ومن ثم، ليس لنا أن نخشى الاختلاف فى فهم القيم الإنسانية، ولكن يجب علينا أن نصون طاقة الارتقاء فى هذه القيم، إذ إن كل ما يرتقى فى مختبر الوجود الإنسانى يعود فيلتقى فى قمم الكمال المنشود.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved