ما زلت منفعلًا
جميل مطر
آخر تحديث:
الثلاثاء 30 ديسمبر 2025 - 6:15 م
بتوقيت القاهرة
اجتمعت أسباب انفعالى وتنوعت. كان آخر اجتماع لها قبل يومين فى بيت ابنتى الأصغر خلال احتفالها بخطوبة ابنتها. دعيت بصفتى الجد وفى الوقت نفسه كبير العائلة، وكان هناك معظم الأحفاد وبعضهم اصطحب أبناءه وبناته. ذهب جانب من اهتمامى إلى حصر من لم يحضر من الأحفاد المغتربين. إنها وللحق لشجرة يانعة.
وبينما كنت أحصر الغياب تذكرت حكاية خطوبة أخرى جرت تفاصيلها قبل شهور قليلة وبطلها أكبر أحفادى الذى قرر أن يقيم مراسم خطوبته لحبيبته الأمريكية على سطح النيل فى فلوكة. لم ينس الحفيد أن يطلب من قبطان الفلوكة تزويدها بجهازين، أحدهما لتصوير المناسبة والثانى لإذاعة موسيقى وأغانى عاطفية، ولم يفته أن يحدد التاريخ بليلة يتوسط سماءها القمر مكتملا.
●●●
مبدعات أيضا بنات هذا الجيل الجديد. قضيت الساعة التى قررت أن أشهد خلالها، أو بمعنى أدق، أكون شاهدا، على التزام الجميع بتقاليد المناسبة، قضيتها أسمع أغانى الخمسينيات. سألت عن الدافع وراء اختيار أغانى هذا العقد من القرن الماضى فجاءت الإجابة لتذهلنى. إنه قرار صاحبة الحفل وهى بطلته أن يكون لكل جيل من أجيال المدعوين أغنياته المفضلة والأشهر. تبدأ الليلة بأغانى الخمسينيات والستينيات فالسبعينيات ويختتم الحفل عند منتصف الليل بأغانى ورقصات الجيل الأحدث، وهو جيل الخاطب والمخطوبة.
قضيت الساعة المخصصة للمدعوين من كبار السن، قضيتها مبتسما وعقلى فى مكان آخر. أما المكان الذى هاجر إليه عقلى فكان صالات الرقص والاحتفال فى كثير من السفارات الموجودة وقتذاك، خمسينيات القرن الماضى، فى مدينة نيو دلهى عاصمة الهند. أذكر بكل الحب والهنا، وشقاوة هذا العمر، كيف قمنا أنا ومن اخترتها واختارتنى لتكون شريكة العمر، وبمختلف أساليب وتقاليد تلك الأيام، كيف قمنا بالتعارف ثم التقارب بالرقص كما بغيره على أنغام هذه الأغانى، أغانى وموسيقى الخمسينيات. أذكر، مع ابتسامة ذات مغزى عميق، آخر المراحل بليلة جمعت فيها زملائى من شباب سفارتنا وتحركنا مجتمعين فى اتجاه بيت السفير السورى ساعيا وراء يد ابنته.
●●●
سحبتنى ذكرياتى التى حملتنى فى الزمان كما فى المكان بعيدا، إلى ما يزيد عن سبعين سنة، لتعود بى إلى لحظة أخرى فى بيت ابنتى وما تزال أغانى وموسيقى الخمسينيات من القرن الماضى يحملها الأثير عبر مكبرات صوت رحيمة وناعمة. أفقت من الذكريات على منظر أناس كثيرين احتشدوا فى الصالون الذى راح يضيق بالوافدين من الصالونات الأخرى. جاءوا برجال غرباء أنا لا أعرفهم جلس بعضهم إلى جانبى. خفت صوت الموسيقى ليأتى صوت رجل فى منتصف العمر أنيق الملابس والمظهر ينهض داعيا الجميع إلى الانتباه إلى ما سيقول. نطق بكلمات طيبة فحواها أن عائلة الشاب الجالس بجانب ابنتنا تتشرف بطلب الموافقة على خطبة ابنتنا لابنهم، وجاءت أن قراءة الجميع للفاتحة لتغنى عن الرد على الطلب بموافقة معلنة وصريحة من المخطوبة وأهلها.
●●●
انتهت المراسم. الجمع يتحرك فى غياب هدف، ومن موقعى ورغم الحركة الكثيفة وقعت عيناى على الخطيب والمخطوبة تمسك بيده وباليد الأخرى تحيى المهنئين من كلا الجنسين. لاحظت أن الأغانى والموسيقى انتقلت عقدًا فصارت موجهة لأهل الستينيات وربما السبعينيات أيضا. اقتربت ابنتنا مع خطيبها لتحى الجالسين والجالسات فى صفي. وصلا عندي. يغيب عن ذاكرتى كل ما حدث بالتفصيل باستثناء أصوات تدعونى لعدم الالتزام بقاعدة النهوض احتراما للمناسبة ومشاركة الخطيبين فرحتهما. أعرف بالتأكيد أننى لم أستجب لتلك الدعوات ووقفت فى استقبالهما ولاحتضانهما. أظن أيضا أننى لم أنتظر أن يستكملا واجبهما نحو بقية الضيوف بل قيل لى بعدها إننى جلست قبل أن يتركا المكان ليستأنفا واجبات تحية الضيوف. قيل وقيل وقيل.
●●●
أهم ما قيل. قيل إننى بدوت أمام الخطيبين ومن خلفهما مهنئون ومهنئات كما لو كنت أمسح بعض ما علق بأهدابى من بقايا دموع خشيت أن تفضحنى، فرحت أتسلل بأصابعى نحوها أمنعها من الانزلاق نحو خد أو آخر. قيل أيضا على لسان ضيفة وقفت خلف الخطيبين لحظة الاحتضان والمشاعر الجياشة؛ أن أصابعى المشاركة فى الاحتضان راحت بدورها ترتعش.
نفيت أن يكون ما ردده ضيوف عن دموع أو أصابع ترتعش قد حدث بالفعل، ولم أكن أمينا فى النفى، أو على الأقل كنت مترددا. ما لا يعرفه الكثيرون خارج دائرة أولادى وزوجى رحمها الله أنها أسرت إلى ابنتينا عن هذه الحال، حال أبيهما العاطفية وهو فى الأربعينيات من عمره قبيل لحظات عقد قرانيهما أو بعدها مباشرة، هى الحال ذاتها وهو على أبواب التسعينيات يدقها استئذانا ورضاء ثم ابتهاجا بخطوبة حفيدته.