مؤسساتنا المحصنة دستوريًا .. بعض التساؤلات

مصطفى كامل السيد
مصطفى كامل السيد

آخر تحديث: الإثنين 31 مارس 2014 - 5:15 ص بتوقيت القاهرة

لا ينكر أى مواطن منصف الدور الأساسى الذى قامت به مؤسسات الدولة من قوات مسلحة وشرطة وقضاء فى تاريخ مصر الحديث. واحدة منها تبنت مطالب الشعب فى لحظات حرجة، وثانيتها وفرت للمواطنين قدرا من الأمن ساهم فى ذيوع صيت مصر كبلد آمن فى محيط إقليمى مضطرب، وثالثتها كانت حصنا للحريات. وقد برزت أهمية هذا الدور منذ ثورة يناير 2011، فقد وقفت القوات المسلحة إلى جانب الشعب عندما خرج يطالب برحيل نظام مبارك الذى كان عقبة أمام تحقيق آماله فى العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، وتطلع الشعب لاستعادة الشرطة عافيتها بعد انهيارها فى الأيام الأولى للثورة، وتمنى أن ينزل القضاء العقاب العادل على من شاعوا فى مصر فسادا فى ظل النظام الذى ثار الشعب عليه. وقد أدركت هذه المؤسسات حاجة الشعب الطبيعية والمشروعة لها، فهو فى النهاية الذى يوفر لها مواردها من قوته المحدود، كما أن مساندته المعنوية لها هى التى تضمن لها أداء مهما بيسر وكفاءة. وقد استجابت لهذه المساندة بوقوفها مع قطاعات واسعة منه عندما تبين لهذه القطاعات أن حكم الإخوان يأخذ البلاد بعيدا عن طابعها الأصيل كوطن للعيش المشترك بين أبنائه وبناته أيا كانت عقائدهم الدينية، ولذلك فقد وقفت هذه المؤسسات الثلاث ضد نظام مرسى وساهمت فى إنهاء حكمه. ومع ذلك فتثير بعض ممارسات هذه المؤسسات منذ ثورة يناير، وخصوصا بعد موجة الثورة الثانية فى يونيو 2013 قلقا مشروعا يهدد التوافق الوطنى حولها، بل ويسىء كذلك إلى صورة مصر فى المحيط العالمى على نحو يتنافى تماما مع ما كانت مصر تحظى به من إعجاب وتقدير بعد ثورة شعبها فى يناير 2011. ومن ثم فالحوار المخلص النزيه مع هذه المؤسسات ضرورى وحيوى فى اللحظة الراهنة، وخصوصا فى غياب مجلس نيابى منتخب هو الإطار المفترض لطرح مثل هذه التساؤلات، بل ويخضع هذه المؤسسات للمساءلة والحساب.

•••

ولكن للأسف الشديد فقد اغتنمت هذه المؤسسات فرصة تعديل دستور 2012 لكى تحصن مراكزها من المساءلة والحساب فى ظل الدستور المعدل الذى وافق عليه أغلبية من شاركوا فى استفتاء يناير 2014. فلا يحق لمجلس النواب المنتخب ولا لرئيس الجمهورية أن يطرح مشروع قانون إلا بعد أخذ رأى المجالس العليا التى تمثل هذه المؤسسات. مثل مجلس الدفاع الوطنى فى حالة القوات المسلحة (المادة 203)، والمجلس الأعلى للشرطة (المادة 207) ومجالس الهيئات القضائية المختلفة (المادة 185) صحيح أن النص الدستورى هو أخذ رأى هذه الهيئات، ولكن تجربة الرئيس السابق محمد مرسى تكشف عاقبة الخلاف مع هذه الهيئات التى ثارت كلها مع قطاع كبير من المواطنين عليه فى 30 يونيو 2013 وخلعته وحصنت مراكزها بهذه الصياغات وغيرها فى النص المعدل للدستور. وكما هو معروف فقد تحقق هذا التحصين فى الواقع، فلم تخضع أى من هذه المؤسسات لأى مساءلة رغم كثير من دواعى القلق حول ممارساتها بعد ثورة يناير. بل وتجاوز بعضها فى السعى للاستقلال عن سلطات الشعب نصوص هذه المواد. والأمر معروف بالنسبة للقضاء، فمجرد التعليق على بعض الأحكام القضائية فى أى محفل له عواقبه، بل وحتى مجرد إبداء ملاحظات على التجمع المهنى والنقابى للقضاة الذى يجسده نادى القضاة استوجب إحالة رئيس جهاز المحاسبات، وهو نفسه قاض جليل، للمحاكمة. وقد دفع الزميل الدكتور عمرو حمزاوى ثمن وصفه أحد الأحكام القضائية بأنه حكم صادم، فصدر قرار بمنعه من السفر خارج البلاد وهو نفسه لا يعرف كيف يوقف هذا القرار.

طبعا كان موقفا محمودا من القوات المسلحة أن وقفت إلى جانب الشعب فى موجتيه الثوريتين فى يناير 2011 وفى يونيو 2013، وهى تتحمل الآن تضحيات هائلة دفاعا عن حدوده وأمنه فى سيناء، وهى التى وفرت قدرا من الأمن حتى تعافى جهاز الشرطة بعد انهياره فى الأيام الأولى لثورة يناير، ولاشك أنها الحصن الحصين للحفاظ على الدولة المصرية فى مواجهة كل ما تتعرض له من ضغوط إقليمية ودولية أفقدت بالفعل دولا عربية شقيقة تماسكها بل انتهى الأمر بواحدة منها إلى انقسامها إلى دولتين، مثل السودان، وهو خطر ماثل لدى دول عربية أخرى. ومع ذلك تقتضى الأمانة الاعتراف بأن هناك فجوة تفصل القوات المسلحة عن قطاع مهم من الشباب الذى كان طليعة الثورة المصرية بموجتيها، مع أنه لولا دور هذا الشباب لما أتيح لقادة القوات المسلحة حكم البلاد، والسبب فى ذلك بعض ممارسات المجلس الأعلى للقوات المسلحة فى فترة سنة ونصف السنة كان هو الآمر الناهى فى شئون مصر، أخطاؤه السياسية هى التى مهدت للإخوان أن يحكموا مصر، وفى ظل حكمه أهدرت كرامة شابات، وقتل مسيحيون، ولقى كثير من الشباب مصرعهم منهم قادة بارزون لثورة يناير وسجن آلاف آخرون. لست بحاجة لسرد هذا السجل فهو معروف، ولكن لم يسمع هؤلاء الشباب اعتذارا عما جرى، ولا إقرارا بالمسئولية، ولا محاسبة للمسئولين عن هذه الممارسات. نتيجة هذا السجل هذه الجفوة الضارة بين قطاع من الشباب الذى يجب أن تفخر به مصر وقواتهم المسلحة، مما ظهرت بعض آثاره فى مقاطعتهم للاستفتاء على الدستور المعدل، وقد يمتد ذلك إلى مقاطعة الانتخابات الرئاسية. وقد تنال هذه الجفوة قطاعات أخرى من المواطنين إذا ما توسع الدور الاقتصادى للقوات المسلحة ليمتد إلى مزاحمة القطاعين الخاص والعام. هؤلاء الشباب ليسوا من المحسوبين على تيار الإخوان المسلمين، ورموزهم قابع معظمهم فى السجون، ولكنهم يشتركون لأسباب مختلفة مع شباب الإسلاميين فى عدم الرضا عن هذه الممارسات.

•••

وفيما يتعلق بالشرطة فقد تولت اللجان الشعبية عنها مهمة حفظ الأمن بعد انهيارها وانسحابها الاضطرارى ثم الطوعى عن القيام بواجباتها خلال الشهور التى أعقبت الثورة. ورحب المواطنون بعودتها، وتوقعوا أن تختلف ممارساتها بعد ثورة بدأت فى يوم الشرطة عمدا للتأكيد عن عدم رضا المواطنين عن الفساد الذى كان سائدا فى صفوفها فى ظل حكم مبارك، وعن دورها فى الإشراف على تزوير الانتخابات. وتتعاطف الأغلبية الساحقة من المواطنين مع الشرطة فى حربها ضد الإرهاب الذى نال كثيرين من جنودها وضباطها. ولكن مرة أخرى يبدو أن الماضى الكئيب لعلاقة الشرطة بالمواطنين يعود. آلاف من المواطنين فى السجون، ليس هناك مصدر رسمى يحدد أعدادهم. سوف يقال إن هؤلاء جرى حجزهم بناء على أوامر قضائية. وسوف يقال إن الشرطة تنفذ القانون. هذا شأن آخر وربما يستحق مناقشة خاصة، ولكن ماذا عن كل هذه التقارير التى تخرج من منظمات حقوقية مصرية ودولية لها مصداقيتها بما فى ذلك المجلس القومى لحقوق الإنسان تتحدث عن سقطات للشرطة تستلزم التحقيق فى فض اعتصامى النهضة ورابعة من عدم إمهال المعتصمين وقتا كافيا للخروج من موقعى الاعتصام، ومن إسراف فى استخدام القوة، وتتحدث تقارير أخرى عن تعذيب ومعاملة غير إنسانية فى الوقت الحاضر فى السجون. هل يتجاهل جهاز الشرطة أن أحد اسباب ثورة يناير هو ما جرى من تعذيب على يد الشرطة لأبرياء، أحد الضحايا هو خالد سعيد الذى أثبت القضاء منذ أيام كذب رواية الشرطة بشأن ظروف مصرعه؟ ويشكو مواطنون كثيرون فى الأقاليم من غياب الشرطة تماما عن توفير الأمن لهم من اعتداءات على أشخاصهم وأموالهم ومن اختطاف لأفراد أسرهم.

•••

وأخيرا أصبح من الصعب على المصريين أن يفخروا بقضائهم، وأن يباهوا به الأمم. هذا القضاء الذى انتصر للحريات، يتساهل أفراد فيه فى مد الحبس الاحتياطى حتى بدون رؤية من وقعوا تحت طائلته، ويتركون كثيرين فى السجون دون تحديد موعد للمحاكمة أو للتحقيق من قبل النيابة، وينكل بقضاة آخرين بحجج واهية. ويبالغ قضاة فى فرض الأحكام مثل السجن لإحدى عشرة سنة على فتيات الإسكندرية لتهم تكاد تكون مألوفة من كثرة تكرارها فى حق كل المحتجين سلميا، ويحكم بعض قضاة المنيا بإعدام 529 مواطنا بتهمة قتل ضابط والشروع فى قتل شرطى آخر وذلك بعد جلستين قصيرتين لم يسمعوا فيهما لا مرافعة النيابة ولا دفاع المتهمين ولا حتى تثبَّتوا من حضور من تواجدوا فى قاعة المحكمة منهم.. والعجيب أن بعض مدعى العلم بالقانون أيدوا هذا الحكم الأولى باسترجاع مبدأ العقوبة الجماعية الذى لفظه الفكر القانونى منذ عهد الماجنا كارتا فى بداية القرن الثالث عشر.

الفجوة بين قطاعات من المواطنين وخصوصا الشباب ومؤسسات الدولة المصرية قائمة، تعود خطورة الفجوة فقط إلى الصورة السلبية لحكومتنا فى الخارج والتى تنجم عن هذه الممارسات، ولكنها تفقد هذه المؤسسات جانبا من شرعيتها لدى المواطنين، وإذا كان من المسلّم به أن كل هذه المؤسسات تواجه تحديات جمة فى أداء وظائفها الأساسية، فلن يقدر لها النجاح لو استمرت هذه الفجوة. أيتها المؤسسات المحصنة دستوريا: نحن المواطنين نعتز بكم ولكن أبلغونا أن رسالتنا قد وصلت.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved