عن أية عدالة نتحدث؟

علي محمد فخرو
علي محمد فخرو

آخر تحديث: الخميس 31 مارس 2016 - 9:40 م بتوقيت القاهرة

تحتاج مؤسسات المجتمع المدنى العربية أن تطرح على نفسها السؤال التالى: أى شعار يجب أن يحظى بالأولوية القصوى، وينال اهتماما يوميا، ويتداول على ألسنة الناس ليل نهار، حتى يصبح جزءا من تطلعاتهم المستقبلية وهدفا محوريا تدور من حوله كل الأهداف الأخرى؟ أى شعار يجب أن يتدرب المواطن على استعماله كأداة يقيس بها صحة أو خطأ ما يراه ويسمعه، ما يقبله أو يرفضه؟

فى اعتقادى أنه شعار العدالة، ليس ككلمة غامضة تستعمل بخفة أو حتى بانتهازية، وإنما كمفهوم له معانيه ودلالاته وأساليب تطبيقه فى الواقع. ذلك أن مفهوم العدالة هو المدخل الضرورى للتفريق بين الديمقراطية الحقيقية والديمقراطية المظهرية المزيفة، بين النظام الاقتصادى الاجتماعى الإنسانى والنظام الاقتصادى الأنانى الجائر، بين الحرية الفردية المسئولة والحرية الفوضوية العبثية، بين القانون المنصف والقانون المنحاز من وراء قناع، بين تساوى المرأة الحقيقى فى الإخاء الإنسانى وبين تساويها الكاذب خارج ذلك الإخاء.

نحن نريده مفهوما صالحا لأن يضم تحت جناحه كل الفضائل الأخرى، من مثل الرحمة والتسامح والكرم والشجاعة وغيرها، التى بدون التصاقها بمفهوم العدالة تصبح فى خطر النكوص عن معانيها السامية واستعمالها بابتذال من قبل قوى الشر، أى أن تكون العدالة كما قال أرسطو» الفضيلة الكاملة ».

إن كنا نريد لهذا المفهوم أن يقوم بكل تلك الأدوار، أفلا يصبح من الضرورى الاتفاق على دلالاته الأساسية؟، خصوصا وأن ملايين الحناجر العربية صرخت مطالبة بالعدالة الاجتماعية فى بداية وعبر مسيرة الربيع العربى.

بادئ ذى بدء فإن مفهوم العدالة مختلف من حوله. وكمثال فنظرة المدرسة الليبرالية إليه تختلف جذريا عن نظرة المدرسة الماركسية إليه. وفى وطننا العربى فإن نظرة المدرسة الإسلامية السياسية تختلف عن كلتا النظرتين.

من هنا فإن المطلوب هو الاتفاق على مفهوم صالح للواقع العربى الحالى لأن العدالة، ومثلها الديمقراطية، هى سيرورة لها بداية ولكن ليس لها سقف أو نهاية، وهى محكومة جزئيا بالتاريخ والثقافة والقيم والعادات.

***

إن المفكر الأردنى فهمى جدعان يرى أن يكون المنطلق العربى لمفهوم العدالة هو شعار الخير العام الذى هو حصيلة النظر إلى الدين كمقاصد كبرى وليس كجزئيات متناثرة قد تبدو أحيانا أنها متناقضة. إنه يذكٌر بأقوال الفقيهين الشاطبى والقرافى قديما وبأقوال الطاهر بن عاشور حديثا من أن المصلحة العامة ينبغى أن تكون أساسا لجميع الأحكام القانونية، هذا إن أريد لها أن تكون قوانين عادلة.

وهو يعتقد أن الانطلاق من ذلك الفهم الفقهى، فهم الدين كمقاصد كبرى، سيسهل على العرب الأخذ بالكثير من النظرات الإنسانية الصائبة حول العدل فى مختلف المدارس الفكرية الغربية ليدمجها مع متطلبات الواقع العربى ويخرج بنظرة عربية متكاملة حول مفهوم العدل.

من المؤكد أن ذلك المنطلق لن يتناقض مع المفهوم الغربى القائل بأن العدالة هو الالتزام بما تفرضه القوانين، اذ إن المنطلق العربى لا يقبل وجود قوانين لا تقوم على أساس المصلحة العامة والنفع العام.

وهو لن يتناقض مع المفهوم الغربى من أن العدالة هى المساواة فى الحقوق، إذ لا مصلحة عامة إن لم تبن على المساواة النسبية، ولكن العادلة، فى الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، لا بين الجماعات فقط وإنما بين الأفراد المواطنين أيضا ضمن مفهوم المواطنة القانونية الحقوقية المتساوية الحديثة.

إن ذلك سيقود إلى وجود دولة الرفاهية الاجتماعية، حيث تكافل القوى مع الضعيف، والغنى مع الفقير، وحيث المساواة فى الفرص وتقاسم كل أنواع الخير العام، وحيث الحرية لا تنقلب إلى فردية أنانية عابثة، وحيث لا يسمح للفوارق الجنسية (الجندرية) أو الانتماءات الدينية أو المذهبية أو القبلية الفرعية أن تلعب خارج ملعب المصلحة العامة والنفع العام، ذلك أن الهوية الإنسانية والوطنية العامة هى أهم وأسمى من كل الهويات الأخرى وبالتالى هى جزء من العدالة.

سيكون مفجعا أن تطرح الجماهير العربية شعار العدالة الاجتماعية، مقرونة بالحرية والكرامة الإنسانية، فلا تقوم النخب الفكرية والسياسية بإعطاء مكان بارز لها فى الفكر السياسى العربى وفى البرامج السياسية للأحزاب وفى الحياة المدنية، وأن تتوقف قوى التسلط العربى من تجاهل ذلك الشعار، وأن يتوقف علماء الفقه الإسلامى العربى عن قصر اهتمامهم بصفات الحاكم العادل دون الاهتمام بصفات نظام الحكم العادل ومتطلباته الصارمة.

لنتذكر أن الإنصاف، الذى امتدح كثيرا فى تراثنا، هو العدالة مطبقة فى الواقع وهو العدالة النابضة بالحياة. والتراحم والتعاضد والشفقة والإحسان لا يحلو محل العدالة. إنهم يمهدون لها ولكن لا يأخذون محلها.

***

فى هذه اللحظة تجرى محاولات كثيرة لترسيخ فكر سياسى ديمقراطى فى أرض العرب، بعد أن عانت تلك الأرض عبر قرون كثيرة من ويلات الظلم والتسلط. من أجل أن يكون لذلك الفكر الديمقراطى التأثير الكبير فى نقل مجتمعات العرب بعيدا عن التخلف لابد أن تكون العدالة منطلقا له ومكونا أساسيا من مكوناته وحاميا له من التشوه والانزلاق الدورى نحو عوالم الظلم والتسلط.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved